فلما فرغنا خرجت إلينا وقالت: يا قوم، هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئا؟ فقلت: نعم، قالت: فاقرأ علي آيات أتعزى بها عن ولدي، فقلت: يقول الله عز وجل: ﴿وبشر الصابرين الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون﴾ (1). قالت: بالله إنها في كتاب الله هكذا؟ قلت: والله إنها لفي كتاب الله هكذا؟ قلت: والله إنها لفي كتاب الله هكذا، فقالت: السلام عليكم، ثم صفت قدميها وصلت ركعات، ثم قالت: اللهم إني قد فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني به، ولو بقي أحد لأحد - قال: فقلت في نفسي تقول: لبقي ابني لحاجتي إليه، فقالت -: لبقي محمد صلى الله عليه وآله لأمته.
فخرجت وأنا أقول: ما رأيت أكمل منها ولا أجزل، ذكرت ربها بأكمل خصاله وأجمل خلاله. ثم إنها لما علمت أن الموت لا مدفع له، ولا محيص عنه، وأن الجزع لا يجدي نفعا، والبكاء لا يرد هالكا، رجعت إلى الصبر الجميل، واحتسبت ابنها عند الله تعالى ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة (2).
ونحوه ما أخرجه ابن أبي الدنيا، قال: كان رجل يجلس إلي، فبلغني أنه شاك (3) فأتيته أعوده، فإذا هو قد نزل به الموت، وإذا أم له عجوز كبيرة عنده فجعلت تنظر حتى غمض وعصب وسجي، ثم قالت: رحمك الله، أي بني، فقد كنت بنا بارا، وعلينا شفيقا، فرزقني الله عليك الصبر، فقد كنت تطيل القيام، وتكثر الصيام، لا حرمك الله تعالى ما أملت فيه من رحمته، وأحسن فيك العزاء، ثم نظرت إلي وقالت:
أيها العائد قد رأيت واعظا ونحن معك.
وروي البيهقي عن ذي النون المصري، قال: كنت في الطواف، وإذا أنا بجاريتين قد أقبلتا، وأنشأت إحداهما تقول:
صبرت وكان الصبر خير (مغبة) (4) * وهل جزء مني ليجدي فأجزع صبرت على ما لو تحمل بعضه * جبال برضوى أصبحت تتصدع ملكت دموع العين ثم رددتها * إلى ناظري فالعين في القلب تدمع