مثل الذي كنا نعرف، وظننا أن عليا سيرجع كما رجع صاحباه. فالتفت [علي (عليه السلام)] إلينا وقال: " اتبعوا أثري ولا يفزعنكم ما ترون [وتسمعون]؛ فليس بضائركم إن شاء الله تعالى ". ومر لا يلتفت ولا يأوي على أحد حتى دخل بنا الشجر، فإذا بنيران تضطرم بغير حطب، وبرؤوس قد قطعت لها ضجة، ولألسنتها جلجلة شديدة وأصوات هائلة، فوالله لقد أحسست برأسي قد انصرفت قمرته ووقعت شعرته، ورجف قلبي حتى لا أملك نفسي، وعلي يتخطى تلك الرؤوس ويقول: " اتبعوني ولا خوف عليكم، ولا يلتفت أحد منكم يمينا وشمالا ". فجعلنا نتلو أثره حتى جاوزنا الشجر ووردنا الماء، فاستقت السقاة؛ ومعنا دلو واحد، فأدلى البراء بن عازب [الدلو] في البئر فاستقى دلوا أو دلوين، ثم انقطع الدلو فوقع في القليب، والقليب ضيق مظلم بعيد القعر، فسمعنا في أسفل القليب قهقهة وضحكا شديدا [...].
فقال علي (عليه السلام): " من يرجع إلى عسكرنا فيأتينا بدلو ورشا؟ ".
فقال أصحابه: ومن يستطيع أن يتجاوز الشجر مع ما رأينا وسمعنا؟!
قال علي (عليه السلام): " إني نازل في القليب، فإذا نزلت فدلوا إلي قربكم ".
ثم ائتز بمئزر ونزل في القليب، وما تزداد القهقة إلا علوا، فوالذي نفس محمد بيده، إنه لينزل وما فينا أحد إلا عضداه يهتزان رعبا، وجعل ينحدر في مراقي القليب إذ زلت رجله فسقط في القليب، فسمعنا وجبة شديدة ازددنا [لها] رعبا، ونسمع اضطرابا شديدا وغطيطا كغطيط (1) المخنوق. ثم نادى علي: " الله أكبر، الله أكبر، أنا عبد الله وأخو رسوله، هلموا قربكم "، فدليناها إليه فأفعمها (2) وعصبها في القليب ثم أصعدها على عنقه شيئا فشيئا عن آخرها، ثم حمل قربتين وحملنا نحن قربة، ومر بين أيدينا ولا يكلمنا ولا نكلمه ولا يذكر لنا شيئا إلا أنا نسمع همهمة، حتى إذا صرنا بموضع الشجر فلم نر مما رأينا شيئا ولا سمعنا مما كنا نسمع، حتى إذا كدنا أن نجاوز