الأولى فلأنها مصدقة له وأما الثانية: فلختم الكتاب به ولا يأتي بعده كتاب حتى يبطله، أو لا يتطرق شك وشبهة إلى لفظه ومعناه على أن يراد باليدين اللفظ وبالخلف المعنى، أو لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات الست واكتفى بذكر الجهتين عن البواقي، أو لأن الإتيان إلى الشئ غالبا من هاتين الجهتين (تنزيل من حكيم حميد): أي هو منزل من عند الحكيم المستحق للحمد والثناء الذي علم الأشياء كلها وفعل أفعالا محكمة لا يتطرق إليها نقص، وهذا كالتأكيد للسابق (ضرب للناس فيه الأمثال) كما قال عز وجل: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) والمثل: كلام يقصد به إلحاق خفي بجلي محسوس أو مشهور ولا يدرك حسن مبانية ولطف معانيه وكيفية ارتباطه بالمقصود وطريق دلالته على المطلوب إلا العلماء الذين ينتقلون بنور بصيرتهم وضياء سريرتهم من ظاهره إلى باطنه ومن محسوسه إلى معقوله، وقد روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: «أمثال القرآن لها فوائد فأنعموا النظر وتفكروا في معانيها ولا تمروا بها» (وصرف فيه الآيات لعلهم يعقلون): أي بين فيه الآيات الدالة على وجوده ووحدته وعلمه وحكمته وقدرته وحشره ونشره وحسابه وأحكامه وثوابه وعقابه وكيفية ايجاده للخلق والغرض منه، لعلهم يعقلون ويفهمون الغرض من تلك الآيات والمقصود من تصريفها (أحل فيه الحلال وحرم فيه الحرام):
الحرام ما لا يجوز، والحلال: ما يجوز، فيشمل الأقسام الأربعة، ولا يجوز لأحد الحكم بتحليل الشيء ولا بتحريمه إلا ما وجده فيه أوخذه من العالم به (وشرع فيه الدين لعباده) أي أظهره وأوضحه بتفسير النبي والوصي (عليهم السلام) (عذرا أو نذرا) قيل: هما بالضم وضمتين للاتباع كالنكر والنكر مصدران من عذر إذا محى الإساءة ورفع اللوم ومن نذر إذا خوف بعد الإعلام وكل منهما مفعول له لشرع أي شرع فيه الدين عذرا للمحقين لاشتماله على رفع اللوم عنهم وذكر مثوباتهم ورفع درجاتهم أو نذرا للمبطلين لاشتماله على ذكر عقوباتهم وشدائدهم ودركاتهم أو بدل عن الدين ويحتمل أن يكونا حالبين عن فاعل شرع أو عن ضمير فيه أو عن الدين وهما حينئذ بمعنى العاذر المنذر (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) إذ بعد إرسال الرسول وإنزال الكتاب وإظهار الدين لم يكن للمبطلين حجة على الله تعالى لترك الحق ومتابعة الباطل، وأما قبله فلهم أن يقولوا لرفع التعذيب عن أنفسهم لولا أرسلت إلينا رسولا وأنزلت إلينا كتابا وأوضحت لنا دينا والتعليل متعلق بجميع ما تقدم وتخصيصه بالبعض بلا مخصص.
(ويكون بلاغا لقوم عابدين) الظاهر أنه معطوف على أن لا يكون والضمير عائد إلى الكتاب أو الرسول أو الدين واشتمال المعطوف على الضمير دون المعطوف عليه غير ممتنع على الظاهر على أنه عطف جملة على جملة لقصد الاشتراك في العلية، والبلاغ: مصدر بمعنى الوصول إلى المقصود، والحمل