شهادتان مقرونتان لا تنفع إحديهما بدون الأخرى، والثانية بمنزلة الباب للأولى إذ لا يحصل التوحيد والحق إلا ببيان الرسول والإقرار به، وفي عبده إشارة إلى شرف مرتبة العبودية (أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) الهدى: القرآن، والايمان والبيان والدلالة ودين الحق: الشريعة التي جاء بها النبي (صلى الله عليه وآله) وإظهاره على الأديان كلها عند ظهور الصاحب (عليه السلام) كما دل عليه صريح بعض الروايات.
(أيها الناس إن الدنيا ليست لكم بدار ولا قرار) في كنز اللغة قرار «آرام گاه» كما قال تعالى (ثم جعلناه في قرار مكين) وقرار الأرض المستقر الثابت منها وفيه تنبيه للغافلين من أبناء الدنيا على أنه لا ينبغي لهم الركون إليها وقصد السكون فيها للزوم مفارقتها سريعا كما أشار إليه بقوله (إنما أنتم فيه كركب عرسوا فأناخوا، ثم استقلوا فغدوا وراحوا) الركب جمع راكب: الدابة كصحب جمع الصاحب، والتعريس: نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة، والاستقلال: رفع الشيء وحمله ذهاب القوم، تقول استقله أي حمله ورفعه واستقل القوم: أي ذهبوا وارتحلوا، والغدو والرواح:
الذهاب غدوة وعشية أي ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وآخر النهار، ثم كثر استعمالها في الذهاب أي وقت كان من ليل أو نهار فهما متفارقان في الأصل ومتساويان في الاستعمال وقد خاطب الناس أجمعين من باب التغليب وشبههم بجماعة الفرسان من المسافرين وأشار إلى وجه الشبه بقوله عرسوا إلى آخره وهو متحقق في المشبه به حسا وفي المشبه عقلا أو شبههم بالذين ماتوا على أن يكون المراد بالركب الجماعة الماضين بقرينة ما بعده والوجه وهو ما ذكر متحقق في الطريفين عقلا، توضيح ذلك:
أن الإنسان وهو النفس حقيقة بعد نزوله في هذا المنزل وهو الدنيا في مدته قليلة سائر إلى دار الآخرة سريعا ومركبه البدن والقوى النفسانية، وطريق سيره هي العالم المحسوس والمعقول، وسيره هو تصرفه في العالمين لتحصيل السعادة أو الشقاوة في الآخرة وفيه ترغيب في الأول وتحذير عن الثاني (دخلوا خفافا وراحوا خفافا) الخفاف ضد الثقال وضمير الجمع للركب أي دخلوا في الدنيا خفافا من متاعها وراحوا منها إلى الآخرة خفافا منه وفيه تنفير للناس عن الدنيا وزهراتها لأنهم لا يحملون معهم عند الارتحال إلى الآخرة شيئا منها فينبغي أن لا يصرفوا أعمارهم في تحصيلها (لم يجدوا عن مضى نزوعا) المضي بالفتح فالسكون «گذشتن ورفتن» والنزوع بضم النون «ابا نمودن وبا كسى در چيزى مخالفت كردن وباز ايستادن»، يقال: نزع عن الأمر نزوعا انتهى عنه وأباه (ولا إلى ما تركوا رجوعا): أي لم يجدوا رجوعا إلى ما تركوا من الدنيا والمساكن والأموال وغيرها، والمراد أن رحيلهم من الدنيا إلى الآخرة وقطع عقبات الموت وما بعده أمر اضطراري وليس لهم قدرة على الرجوع إلى الدنيا بعد الخروج منها ليتداركوا ويعملوا