انتقالهم من هذه الدار إلى دار القرار وفراقهم عن المال والعيال وسكونهم في القبور مع أعمالهم وقاس نفسه عليهم حتى أنه كأحدهم (وترك الدنيا والناس) الواو إما بمعنى مع أي ترك الدنيا مع الناس المائلين إليها ولا يشاركهم فيها أو للعطف أي ترك الدنيا بالإعراض عنها وترك الناس بالاعتزال منهم لعلمه بأن مجالستهم تفسد دينه ودنياه (يتعلم للتفقه والسداد) التفقه: التفهم من الفقه وهو الفهم وغلب إطلاقه على علم الدين لشرفه والسداد، بالفتح: الصواب من القول والفعل يعنى غرضه من التعلم أمران أحدهما تفهم القوانين الشرعية والآداب والأخلاق النبوية وتكميل النفس بها وثانيهما تسديد طاهره وباطنه بالعمل بها وليس غرضه منه الرياء والسمعة ورياسة الخلق وصرف وجوههم إليه (وقد وقر قلبه ذكر المعاد) التوقير هنا بمعنى التعظيم والتبجيل أو بمعنى الترزين والتسكين، وقلبه على الأول فاعل وذكر المعاد مفعول، وعلى الثاني بالعكس، والمراد بتعظيم ذكر المعاد هو التوجه إلى الاستعداد له وتحصيل ما ينفع فيه وترك ما ينافيه من أعراض الدنيا وبتسكين القلب وترزينه تسكينه عن الاضطراب من فوات الدنيا وترزينه عن الميل إلى زهراتها (وطوى مهاده وهجر وساده) المهد والمهاد: الفراش، وهذا كناية عن الإتيان بما أقرت به الشريعة من الكمالات الباقية والمبالغة في تحصيلها خصوصا في الليل فإن العبادة فيها لكثرة المشقة وبعد الرياء وحضور القلب أعظم أجرا منها في النهار (منتصب على أطرافه) أي على قديمه أو على جميع جوارحه باستعمال كل منها فيما طلب منه (داخل في أعطافه) كأنها جمع عطف الشيء بالكسر: وهو جانبه وهو إشارة إلى أن غلبة النوم المحرك له إلى جوانبه لا تمنعه من القيام بوظائف الطاعات، ويمكن أن يراد بها الازر والأردية (خاشعا لله تعالى) أي مقبلا على الله تعالى بظواهره المشغولة بما هو مطلوب منها (يراوح بين الوجه والكفين) يضع وجهه تارة على التراب ويرفع كفيه تارة إلى السماء أو يرفع وجهه إلى السماء تارة وكفيه إليها أخرى (خشوع في السر لربه) أي مقبل على الله بقلبه ساكن مطمئن إليه فارغ عما سواه.
(لدمعه صبيب ولقلبه وجيب) الصبيب والوجيب مصدران يقال: صب الماء من باب ضرب صبيبا: إذا انسكب ووجب القلب وجيبا: إذا رجف واضطرب، ولعل الأول لألم الفراق والثاني لكمال الاشتياق (شديدة أسباله) أسبل المطر والدمع: إذا هطلا وتتابعا، والاسم السبل بالتحريك ويجمع على أسبال كالبطل على الأبطال (يرتعد من خوف الله عز ذكره أوصاله): أي مفاصله (وقد عظمت فيما عند الله رغبته) من القرب والكرامة والسعادة والثواب ونعيم الأبد وعلامة تلك الرغبة هي الاشتغال بأسباب الوصول إلى ما ذكر (واشتدت منه رهبته) علامة صدق الرهبة هي الفرار