وأنعم بالحياة عليهم فضلا، فأحيا وأمات وقدر الأقوات، أحكمها بعلمه تقديرا وأتقنها بحكمته تدبيرا إنه كان خبيرا بصيرا، هو الدائم بلا فناء والباقي إلى غير منتهى، يعلم ما في الأرض وما في السماء وما بينهما وما تحت الثرى.
أحمده بخالص حمده المخزون بما حمده به الملائكة والنبيون، حمدا لا يحصى له عدد ولا يتقدمه أمد، ولا يأتي بمثله أحد، او من به وأتوكل عليه وأستهديه وأستكفيه وأستقضيه بخير وأسترضيه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (صلى الله عليه وآله).
أيها الناس إن الدنيا ليست لكم بدار ولا قرار، إنما أنتم فيها كركب عرسوا فأناخوا، ثم استقلوا فغذوا وراحوا، دخلوا خفافا وراحوا خفافا، لم يجدوا عن مضي نزوعا، ولا إلى ما تركوا رجوعا ، جد بهم فجدوا، وركنوا إلى الدنيا فما استعدوا حتى إذا أخذ بكظمهم وخلصوا إلى دار قوم جفت أقلامهم لم يبق من أكثرهم خبر ولا أثر، قل في الدنيا لبثهم وعجل إلى الآخرة بعثهم، فأصبحتم حلولا في ديارهم، ظاعنين على آثارهم والمطايا بكم تسير سيرا، ما فيه أين ولا تفتير، نهاركم بأنفسكم دؤوب وليلكم بأرواحكم ذهوب فأصبحتم تحكون من حالهم حالا وتحتذون من مسلكهم مثالا، فلا تغرنكم الحياة الدنيا فإنما أنتم فيها سفر حلول والموت بكم نزول، تنتضل فيكم مناياه، وتمضي بأخباركم مطاياه إلى دار الثواب والعقاب والجزاء والحساب.
فرحم الله امرءا راقب ربه وتنكب ذنبه وكابر هواه وكذب مناه، امرءا زم نفسه من التقوى بزمام وألجمها من خشية ربها بلجام، فقادها إلى الطاعة بزمامها وقدعها عن المعصية بلجامها، رافعا إلى المعاد طرفه، متوقعا في كل أوان حتفه، دائم الفكر، طويل السهر، عزوفا عن الدنيا سأما، كدوحا لآخرته متحافظا، امرءا جعل الصبر مطية نجاته، والتقوى عدة وفاته ودواء أجوائه، فاعتبر وقاس وترك الدنيا والناس، يتعلم للتفقه والسداد وقد وقر قلبه ذكر المعاد وطوبى مهاده وهجر وساده، منتصبا على أطرافه، داخلا في أعطافه، خاشعا لله عز وجل، يرواح بين الوجه والكفين، خشوع في السر لربه، لدمعه صبيب ولقلبه وجيب، شديدة أسباله، ترتعد من خوف الله عز وجل أوصاله، قد عظمت فيما عند الله رغبته واشدت منه رهبته، راضيا بالكفاف من أمره يظهر دون ما يكتم ويكتفي بأقل مما يعلم اولئك ودائع الله في بلاده، المدفوع بهم عن عباده، لو أقسم أحدهم على الله عز ذكره لأبره، أو دعا على أحد نصره الله، يسمع إذا ناجاه ويستجيب له إذا دعاه، جعل الله العاقبة للتقوى والجنة لأهلها