إلى جميع حركاته وسكناته ولحظاته فإن كانت إلهية بادر إليها وإن كانت شيطانية تعجل إلى دفعها وسبب تلك المراقبة هو العلم بأنه تعالى مطلع على الضمائر والسرائر وشاهد على كل نفس بما كسبت ورقيب على كل شيء، وإذا استقرت هذه المعرفة في القلب تبعثه إلى مراقبته بالتعظيم والإجلال والاستغراق ببحار القدرة والكمال والانكسار تحت الهيبة والاقتدار بحيث لا يلتفت إلى المباحات فضلا عن المحظورات، ومن بلغ هذه المرتبة فقد يغفل عن الخلق والمتصفون بها على جميع درجات متباينة ومقامات متفاوتة (وتنكب ذنبه): أي عدل ومال عنه تعظيما لربه وخوفا من عقابه (وكابر هواه): أي غالبه وعانده وتلك المكابرة بأن يطوع نفسه الأمارة للأعمال البدنية، وراقبها في كل خاطر تلقيه إلى قلبه وقابلها بقمعه ودفعه، وفي بعض النسخ كابد بالدال من المكابدة: وهي تحمل المشاق على ترك هواه (وكذب مناه) أي قابل ما يلقيه إليه الشيطان من الأماني ويعده بالوصول إليها بالتكذيب والدفع له بتجويز عدم نيلها ونسبتها إلى الأكاذيب المخترعة.
(إمرءا زم نفسه من التقوى بزمام وألجمها من خشية ربها بلجام فقادها إلى الطاعة بزمامها وقدعها عن المعصية بلجامها) القود نقيض السوق فهو من أمام وذاك من خلف والقدع الكف قدعه كمنعه كفه قد شبه النفس الأمارة بالفرس الحرون، والتقوى بالزمام، والخشية باللجام ثم فرع ما يناسب كلا إليه ولا يخفى لطفه (رافعا إلى المعاد طرفه) الطرف: النظر والمراد به بالنظر القلبي وهو توجهه إلى أمر الآخرة والعمل لها (متوقعا في كل أوان حتفه): أي موته لعلمه بوروده قطعا مع عدم علمه بزمان وروده فيتوقعه في كل آن وذلك يبعثه على ترك الدنيا وطلب الآخرة (دائم الفكر) في أمر الآخرة والتخلص من عقابتها (طويل السهر) وهو عدم النوم في الليل كله أو بعضه يقال: سهر الليل أو بعضه إذا لم ينم فيه فهو ساهر وهو كناية عن العبادة في الليل والقيام بوظائف الطاعات فيه (عزوفا عن الدنيا سأما) عزفت نفسه عنه: زهدت فيه وانصرفت عنه (كدوحا لآخرته متحافظا) عن حطام الدنيا ومخاطرات النفس ووساوس الشيطان والكدح السعي والحرص في العمل.
(امرءا جعل الصبر مطية نجاته) أي حمل النفس على فعل الطاعة وترك المعصية ودفعها عن هواها ومنعها عن الجزع في النوائب واستعار المطية للصبر لكونه سببا للنجاة كالمطية (والتقوى عدة وفاته) العدة بالضم: الاستعداد والتأهب وما أعد من مال وسلاح أو غير ذلك ليوم حاجة، والتقوى عدة واقية من أهوال الموت وما بعده (ودواء أجوائه) الجوي الحزن والحرقة وتطاول المرض وداء في الصدر وملالة القلب، والتقوى دواء للأمراض القلبية والبدنية الموجبة لفساد الظاهر والباطن وميلهما عن صراط الحق إلى الباطل (فاعتبر وقاس) أي فاعتبر بأحوال الماضين وسرعة