الله يعلم أن رسول الله إنما لاعن كما أنزل الله 430 - فاكتفوا بإبانة الله اللعان بالعدد والشهادة لكل واحد منهما دون حكاية لفظ رسول الله حين لاعن بينهما (1) 431 - قال الشافعي في كتاب ال (2) له غاية الكفاية من اللعان وعدده 432 - (3) ثم حكى بعضهم عن النبي في الفرقة بينهما كما وصفت 433 - وقد وصفنا سنن رسول الله مع كتاب الله قبل هذا (4).
إذا كان الوحي ينزل بمكروه، لما ذكرت من قول الله تبارك وتعالى، ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره فيما في معناه.
وفي معناه كراهية لكم أن تسألوا عما لم يحرم، فان حرمه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: حرم ابدا، الا أن ينسخ الله تحريمه في كتابه، أو ينسخ على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سنه بسنة (1).
وفيه دلائل على أن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام باذن الله تعالى إلى يوم القيامة، بما وصفت وغيره، من افتراض الله تعالى طاعته في غير آية من كتابه، وما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، مما قد وصفته في غير هذا الموضع.
وفيه دلالة على أن رسول الله صلى الله على وسلم حين وردت عليه هذه المسئلة، وكانت حكما -: وقف عن جوابها، حتى أتاه من الله عز وجل الحكم فيها، فقال لعويمر: «قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك» فلاعن بينهما، كما أمر الله تعالى في اللعان، ثم فرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة ونفاه عن الأب، وقال له: «لا سبيل لك عليها» ولم يردد الصداق على الزوج.
فكانت هذه أحكاما وجبت باللعان، ليست باللعان بعينه، فالقول فيها واحد من قولين: أحدهما: أني سمعت ممن أرضى دينه وعقله وعلمه يقول: انه لم يقض فيها ولا غيرها الا بأمر الله تبارك وتعالى، قال:
فأمر الله إياه وجهان: أحدهما: وحي ينزله فيتلى على الناس، والثاني:
رسالة تأتيه عن الله تعالى بأن افعل كذا، فيفعله.
ولعل من حجة من قال هذا القول ان يقول: قال الله تبارك وتعالى: [وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم] (1) فيذهب إلى أن الكتاب هو ما يتلى عن الله تعالى، والحكمة هي ما جاءت به الرسالة عن الله، مما بينت سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله عز وجل لأزواج نبيه (2): [واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة] (3).
ولعل من حجته أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم -: «والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله. أما إن الغنم والخادم رد عليك».
وأن امرأة رجم إذا اعترفت، وجلد ابن الرجل مائة وغربه عاما.
ولعله يذهب إلى أنه إذا انتظر الوحي في قضية لم ينزل عليه فيها - انتظره كذلك في كل قضية...
وقال غيره: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهان: أحدهما:
ما يبين ما في كتاب الله (4)، المبين عن معنى ما أراد الله بجملته، خاصا وعاما.
والآخر: ما ألهمه الله من الحكمة، وإلهام الأنبياء وحي. ولعل من حجة من قال هذا القول أن يقول: قال الله عز وجل فيما يحكي عن إبراهيم:
[إني أري في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟ قال: يا أبت افعل ما تؤمر] (1) فقال غير واحد من أهل التفسير: رؤيا الأنبياء وحي، لقول ابن إبراهيم الذي أمر بذبحه: [يا أبت افعل ما تؤمر] ومعرفته أن رؤياه امر أمر به، وقال الله تبارك وتعالى لنبيه: [وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن] (2) وقال غيرهم: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي، وبيان عن وحي، وأمر جعله الله اليه، بما ألهمه من حكمته، وخصه به من نبوته، وفرض على العباد اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه.
قال: وليس تعدو السنن كلها واحدا من هذه المعاني التي وصفت، باختلاف من حكيت عنه من أهل العلم. وأيها كان فقد ألزمه الله تعالى خلقه، وفرض عليهم اتباع رسوله فيه.
وفي انتظار رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في المتلاعنين، حتى جاءه فلاعن، ثم سن الفرقة، وسن نفي الولد، ولم يردد الصداق على الزوج وقد طلبه -: دلالة على أن سنته لا تعدو واحدا من الوجوه التي ذهب إليها أهل العلم: بأنها تبين عن كتاب الله: إما برسالة من الله، أو إلهام له، وإما بأمر جعله الله اليه، لموضعه الذي وضعه من دينه - وبيان لأمور: منها أن الله تعالى أمره أن يحكم علي الظاهر، ولا يقيم حدا بين اثنين إلا به، لأن الظاهر يشبه الاعتراف من المقام عليه الحد، أو بينة، ولا يستعمل على أحد - في حد ولاحق وجب عليه -: دلالة على كذبه، ولا يعطى أحدا بدلالة على صدقه، حتى تكون الدلالة من الظاهر في العام، لا من الخاص.
فإذا كان هذا هكذا في أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم -:
كان من بعده من الولاة أولى أن لا يستعمل دلالة، ولا يقضي إلا بظاهر أبدا.
فإن قال قائل: ما دل على هذا؟ قلنا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتلاعنين: «ان أحدكما كاذب». فحكم على الصادق والكاذب حكما واحدا: أن أخرجهما من الحد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن جاءت به أحيمر فلا أراه الا قد كذب عليها، وان جاءت به أديعج فلا أراه إلا قد صدق» فجاءت به علي النعت المكروه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ان أمره لبين لولا ما حكم الله (1)». فأخبر أن صدق الزوج على الملتعنة بدلالة على صدقه أو كذبه بصفتين، فجاءت دلالة على صدقه، فلم يستعمل عليها الدلالة، وأنفذ عليها ظاهر حكم الله تعالى: من ادراء الحد، وإعطائها الصداق، مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ان أمره لبين لولا ما حكم الله (1)».
وفي مثل معنى هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:
«انما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار». فأخبر أنه يقضي على الظاهر من كلام الخصمين، وانما يحل لهما ويحرم عليهما فيما بينهما وبين الله على ما يعلمان.
ومن مثل هذا المعنى من كتاب الله قول الله عز وجل: [إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم انك لرسوله، والله يشهد ان المنافقين لكاذبون (1)] فحقن رسول الله صلى الله عليه وسلم دماءهم بما أظهروا من الاسلام، وأقرهم على المناكحة والموارثة، وكان الله أعلم بدينهم بالسرائر، فأخبره الله أنهم في النار، فقال: [ان المنافقين في الدرك الأسفل من النار (2)].
وهذا يوجب على الحكام ما وصفت: من ترك الدلالة الباطنة، والحكم بالظاهر من القول أو البينة أو الاعتراف أو الحجة. ودل أن عليهم أن ينتهوا إلى ما انتهي بهم اليه، كما انتهى رسول الله صلي الله عليه وسلم في المتلاعنين إلى ما انتهى به اليه. ولم يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم الله، وأمضاه على الملاعنة، بما ظهر له من صدق زوجها عليها بالاستدلال بالولد -: أن يحدها حد الزانية.
فمن بعده من الحكام أولى أن لا يحدث في شئ، لله فيه حكم، أو لرسوله (3) صلى الله عليه وسلم -: غير ما حكما به بعينه، أو ما كان في معناه.