الرسالة - الإمام الشافعي - الصفحة ١٥٠
الله يعلم أن رسول الله إنما لاعن كما أنزل الله 430 - فاكتفوا بإبانة الله اللعان بالعدد والشهادة لكل واحد منهما دون حكاية لفظ رسول الله حين لاعن بينهما (1) 431 - قال الشافعي في كتاب ال (2) له غاية الكفاية من اللعان وعدده 432 - (3) ثم حكى بعضهم عن النبي في الفرقة بينهما كما وصفت 433 - وقد وصفنا سنن رسول الله مع كتاب الله قبل هذا (4).
إذا كان الوحي ينزل بمكروه، لما ذكرت من قول الله تبارك وتعالى، ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره فيما في معناه.
وفي معناه كراهية لكم أن تسألوا عما لم يحرم، فان حرمه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: حرم ابدا، الا أن ينسخ الله تحريمه في كتابه، أو ينسخ على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سنه بسنة (1).
وفيه دلائل على أن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام باذن الله تعالى إلى يوم القيامة، بما وصفت وغيره، من افتراض الله تعالى طاعته في غير آية من كتابه، وما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، مما قد وصفته في غير هذا الموضع.
وفيه دلالة على أن رسول الله صلى الله على وسلم حين وردت عليه هذه المسئلة، وكانت حكما -: وقف عن جوابها، حتى أتاه من الله عز وجل الحكم فيها، فقال لعويمر: «قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك» فلاعن بينهما، كما أمر الله تعالى في اللعان، ثم فرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة ونفاه عن الأب، وقال له: «لا سبيل لك عليها» ولم يردد الصداق على الزوج.
فكانت هذه أحكاما وجبت باللعان، ليست باللعان بعينه، فالقول فيها واحد من قولين: أحدهما: أني سمعت ممن أرضى دينه وعقله وعلمه يقول: انه لم يقض فيها ولا غيرها الا بأمر الله تبارك وتعالى، قال:
فأمر الله إياه وجهان: أحدهما: وحي ينزله فيتلى على الناس، والثاني:
رسالة تأتيه عن الله تعالى بأن افعل كذا، فيفعله.
ولعل من حجة من قال هذا القول ان يقول: قال الله تبارك وتعالى: [وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم] (1) فيذهب إلى أن الكتاب هو ما يتلى عن الله تعالى، والحكمة هي ما جاءت به الرسالة عن الله، مما بينت سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله عز وجل لأزواج نبيه (2): [واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة] (3).
ولعل من حجته أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم -: «والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله. أما إن الغنم والخادم رد عليك».
وأن امرأة رجم إذا اعترفت، وجلد ابن الرجل مائة وغربه عاما.
ولعله يذهب إلى أنه إذا انتظر الوحي في قضية لم ينزل عليه فيها - انتظره كذلك في كل قضية...
وقال غيره: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهان: أحدهما:
ما يبين ما في كتاب الله (4)، المبين عن معنى ما أراد الله بجملته، خاصا وعاما.
والآخر: ما ألهمه الله من الحكمة، وإلهام الأنبياء وحي. ولعل من حجة من قال هذا القول أن يقول: قال الله عز وجل فيما يحكي عن إبراهيم:
[إني أري في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟ قال: يا أبت افعل ما تؤمر] (1) فقال غير واحد من أهل التفسير: رؤيا الأنبياء وحي، لقول ابن إبراهيم الذي أمر بذبحه: [يا أبت افعل ما تؤمر] ومعرفته أن رؤياه امر أمر به، وقال الله تبارك وتعالى لنبيه: [وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن] (2) وقال غيرهم: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي، وبيان عن وحي، وأمر جعله الله اليه، بما ألهمه من حكمته، وخصه به من نبوته، وفرض على العباد اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه.
قال: وليس تعدو السنن كلها واحدا من هذه المعاني التي وصفت، باختلاف من حكيت عنه من أهل العلم. وأيها كان فقد ألزمه الله تعالى خلقه، وفرض عليهم اتباع رسوله فيه.
وفي انتظار رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في المتلاعنين، حتى جاءه فلاعن، ثم سن الفرقة، وسن نفي الولد، ولم يردد الصداق على الزوج وقد طلبه -: دلالة على أن سنته لا تعدو واحدا من الوجوه التي ذهب إليها أهل العلم: بأنها تبين عن كتاب الله: إما برسالة من الله، أو إلهام له، وإما بأمر جعله الله اليه، لموضعه الذي وضعه من دينه - وبيان لأمور: منها أن الله تعالى أمره أن يحكم علي الظاهر، ولا يقيم حدا بين اثنين إلا به، لأن الظاهر يشبه الاعتراف من المقام عليه الحد، أو بينة، ولا يستعمل على أحد - في حد ولاحق وجب عليه -: دلالة على كذبه، ولا يعطى أحدا بدلالة على صدقه، حتى تكون الدلالة من الظاهر في العام، لا من الخاص.
فإذا كان هذا هكذا في أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم -:
كان من بعده من الولاة أولى أن لا يستعمل دلالة، ولا يقضي إلا بظاهر أبدا.
فإن قال قائل: ما دل على هذا؟ قلنا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتلاعنين: «ان أحدكما كاذب». فحكم على الصادق والكاذب حكما واحدا: أن أخرجهما من الحد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن جاءت به أحيمر فلا أراه الا قد كذب عليها، وان جاءت به أديعج فلا أراه إلا قد صدق» فجاءت به علي النعت المكروه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ان أمره لبين لولا ما حكم الله (1)». فأخبر أن صدق الزوج على الملتعنة بدلالة على صدقه أو كذبه بصفتين، فجاءت دلالة على صدقه، فلم يستعمل عليها الدلالة، وأنفذ عليها ظاهر حكم الله تعالى: من ادراء الحد، وإعطائها الصداق، مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ان أمره لبين لولا ما حكم الله (1)».
وفي مثل معنى هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:
«انما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار». فأخبر أنه يقضي على الظاهر من كلام الخصمين، وانما يحل لهما ويحرم عليهما فيما بينهما وبين الله على ما يعلمان.
ومن مثل هذا المعنى من كتاب الله قول الله عز وجل: [إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم انك لرسوله، والله يشهد ان المنافقين لكاذبون (1)] فحقن رسول الله صلى الله عليه وسلم دماءهم بما أظهروا من الاسلام، وأقرهم على المناكحة والموارثة، وكان الله أعلم بدينهم بالسرائر، فأخبره الله أنهم في النار، فقال: [ان المنافقين في الدرك الأسفل من النار (2)].
وهذا يوجب على الحكام ما وصفت: من ترك الدلالة الباطنة، والحكم بالظاهر من القول أو البينة أو الاعتراف أو الحجة. ودل أن عليهم أن ينتهوا إلى ما انتهي بهم اليه، كما انتهى رسول الله صلي الله عليه وسلم في المتلاعنين إلى ما انتهى به اليه. ولم يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم الله، وأمضاه على الملاعنة، بما ظهر له من صدق زوجها عليها بالاستدلال بالولد -: أن يحدها حد الزانية.
فمن بعده من الحكام أولى أن لا يحدث في شئ، لله فيه حكم، أو لرسوله (3) صلى الله عليه وسلم -: غير ما حكما به بعينه، أو ما كان في معناه.

(١) قال الشافعي في الأم (١١١: ٥):
«فيما حكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لاعن بين أخوي بني العجلان، ولم يتكلف أحد حكاية حكم النبي صلى الله عليه وسلم في اللعان، أن يقول: قال للزوج: قل كذا، ولا للمرأة:
قولي كذا، إنما تكلفوا حكاية جملة اللعان -: دليل على أن الله عز وجل إنما نصب اللعان حكاية في كتابه، فإنما لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين بما حكم الله عز وجل في القرآن، وقد حكى من حضر اللعان في اللعان ما احتيج إليه، مما ليس في القرآن منه».
وقوله «بما حكم الله» أرجح أن صوابه «بما حكى الله».
(٢) في ب و س «وفي كتاب الله» والواو مكتوبة في الأصل بخط غير خطه.
(٣) هنا في ج زيادة «قال الشافعي».
(٤) مضى في مواضع كثيرة، منها في (باب ما أبان الله لخلقه من فرضه على رسوله اتباع ما أوحي إليه. الخ) في الفقرات (٢٩٨ - ٣٠٩).
وللشافعي - رضي الله عنه - في هذا الموضع فصل نفيس جدا، كتبه في الأم (١١٣: ٥ - ١١٤) يجب أن نلحقه بكلامه هنا، إتماما له وبيانا، لأنه بموضوع (الرسالة) أشبه:
(قال الشافعي: ففي حكم اللعان في كتاب الله، ثم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -: دلائل واضحة، ينبغي لأهل العلم أن ينتدبوا بمعرفته (١)، ثم يتحروا أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غيره على مثاله (٢)، فيؤدون (٣) الفرض، وتنتفي عنهم الشبه التي عارض بها من جهل لسان العرب وبعض السنن، وغبى عن موضع الحجة.
منها: أن عويمرا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل وجد مع امرأته رجلا، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل.
وذلك أن عويمرا لم يخبره أن هذه المسئلة كانت.
وقد أخبرنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عامر بن سعد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يكن فحرم من أجل مسئلته».
وأخبرنا ابن عيينة عن ابن شهاب عن عامر بن سعد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل معناه.
قال الله عز وجل: [لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم، عفا الله عنها، والله غفور حليم. قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين (4)].
قال الشافعي رحمه الله تعالى: كانت المسائل فيها فيما لم ينزل، (1) كذا في الأم، ولعل صحته «لمعرفته» باللام.
(2) في الأم «أمثاله» وهو خطأ.
(3) في الأم «فهو دون» وكتب مصححها بحاشيتها ما يفيد تصحيحها بما أثبتنا.
(4) سورة المائدة (101 و 102).
(1) في الأم «لسنة» باللام، وهو خطأ.
(1) سورة النساء (113).
(2) في الام «لأزواجه» وهو خطأ مطبعي واضح.
(3) سورة الأحزاب (34).
(4) في الأم «ما تبين مما في كتاب الله» وهو تحريف، صحته ما كتبنا.
(1) سورة الصافات (102).
(2) سورة الاسراء (60).
(1) انظر ما مضى في حاشية رقم (428).
(1) سورة المنافقون (1).
(2) سورة النساء (145).
(3) في الأم «ولا لرسوله» وهو خطأ واضح.
وواجب على الحكام والمفتين أن لا يقولوا الا من وجه لزم من كتاب الله أو سنة أو إجماع، فإن لم يكن في واحد من هذه المنازل اجتهدوا عليه، حتى يقولوا مثل معناه، ولا يكون لهم - والله أعلم - أن يحدثوا حكما ليس في واحد من هذا ولا في مثل معناه).
(١٥٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 145 146 147 148 149 150 157 158 159 160 161 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 الجزء الأول 5
2 رموز النسخ 6
3 الخطبة 7
4 الصلاة على النبي 16
5 باب كيف البيان 21
6 باب البيان الأول 26
7 باب الثاني 28
8 باب الثالث 31
9 باب الرابع 32
10 باب الخامس 34
11 باب ما نزل من الكتاب عاما يراد به العام ويدخله الخصوص 53
12 باب ما أنزل من الكتاب عام الظاهر وهو يجمع العام والخصوص 56
13 باب بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص 58
14 باب الصنف الذي يبين سياقه معناه 62
15 باب ما نزل عاما دلت السند خاصة على أنه يراد به الخاص 64
16 بيان فرض الله في كتابه اتباع سنة نبيه 73
17 باب فرض الله طاعة رسول الله مقرونة بطاعة الله ومذكور كورة وحدها 79
18 باب ما أمر الله من طاعة رسول الله 82
19 باب ما أبان الله لخلقه من فرضه على رسوله اتباع ما أوحى إليه وما شهد له به من ابتاع ما أمر به ومن هداه وأنه هاد لمن اتبعه 85
20 ابتداء الناسخ والمنسوخ 106
21 الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه 113
22 باب فرض الصلاة الذي دل الكتاب ثم السنة على من تزول عنه العذر وعلى من لا تكتب صلاته بالمعصية 117
23 الناسخ (2) والمنسوخ الذي تدل عليه السنة والاجماع 137
24 باب الفرائض التي أنزل الله (1) نصا 147
25 الفرائض المنصوصة التي (6) سن رسول الله معها 161
26 الفرض المنصوص الذي دلت السنة على أنه إنما أراد به الخاص جمل الفرائض 167
27 جمل الفرائض 176
28 في الزكاة 186
29 [في الحج] 197
30 [في العدد (7)] 199
31 [في محرمات النساء] 201
32 الجزء الثاني 204
33 [في محرمات الطعام (3)] 206
34 [فيما تمسك عنه المعتدة من الوفاة (1)] 209
35 باب العلل في الأحاديث 210
36 وجه آخر 245
37 وجه آخر 251
38 وجه آخر من الاختلاف 267
39 اختلاف الرواية على وجه غير الذي قبله 276
40 وجه آخر مما يعد مختلفا وليس عندنا بمختلف 282
41 (3) وجه آخر من الاختلاف 297
42 [في غسل الجمعة (3)] 302
43 النهى (1) عن معنى دل عليه معنى في (2) حديث غيره 307
44 النهى عن معنى أوضح من معنى قبله 313
45 النهى عن معنى يشبه الذي قبله في شئ ويفارقه في شئ غيره 316
46 باب آخر 331
47 وجه يشبه المعنى الذي قبله 335
48 [صفة نهى الله ونهى رسوله] (1) 343
49 [باب العلم] (1) 357
50 [باب خبر الواحد] (3) 369
51 الجزء الثالث 389
52 الحجة في تثبيت خبر الواحد 401
53 [باب الاجماع] (2) 471
54 [القياس] (3) 476
55 [باب الاجتهاد] (1) 487
56 [باب الاستحسان] (4) 503
57 [باب الاختلاف (1)] 560