حليف مخزوم (عمار بن ياسر) - صدر الدين شرف الدين - الصفحة ٢٤
نفسه ووداعة في طبعه، ولينا في مزاجه، وانصرافا عما لا يعنيه. أما الذين عاشروه حق المعاشرة، وبلوا دخائله حق البلاء، فكانوا يعلمون أن لصمته مصدرا آخر أعمق من هذه المصادر كلها، وإن كانت هذه لمصادر حق تؤثر فيه الصمت وتطبعه عليه. أما المصدر الخطير فكان تفكيرا ملحا من تفكير حنيف - كما كانوا يقولون - أو وعي حر - كما تعودنا أن نقول اليوم - من وعي الأحرار المفكرين، وكان الوعي في عهده متململا يبرق إلى الواعين، ويخامرهم، ويؤامرهم، ويحثهم حثا عنيفا على إعادة النظر بهذه الوثنية المظلمة، وبهذه العادات الرثة وبهذه الأنظمة البالية، ولكنهم كانوا يخشون الجهر، ويخافون الظهور، ولا سيما مستضعف كعمار، أكبر حجته في بقائه بمكة حلف أبيه لأبي حذيفة، وكل قوته أنه منسوب إلى هذا الزعيم من مخزوم، فما أحراه إذا يتخلى عنه أبو حذيفة أن يمزقه السياط، أو تتقاذفه الغلمان، أو تتخطفه الشياطين، فيذهب من أجل هذا صامتا صمته العميق المفكر، موادعا سادة قريش موادعة أحلافهم وعبيدهم منتظرا مع هذا وذاك رجفة الزلزال التي يحسها في نفسه، ويحسها في نظرائه، ويحسها في سير الأحداث.
وكان خلال صمته ينتقد بينه وبين نفسه، وربما انتقد بينه وبين أبيه مصير مكة في عهده، وسوء منقلب سادتها أو أكثرهم ممن أسرفوا على مكة وعلى الناس وعلى أنفسهم، فارتدوا جبابرة يوشك أن يبدلوا أمن (البيت) خوفا، ويعيدوا بشاشة
(٢٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 ... » »»
الفهرست