فليتأمل هذه الخطبة، فإن نسبتها إلى كل فصيح من الكلام - عدا كلام الله ورسوله - نسبة الكواكب المنيرة الفلكية إلى الحجارة المظلمة الأرضية، ثم لينظر الناظر إلى ما عليها من البهاء والجلالة والرواء والديباجة، وما تحدثه من الروعة والرهبة والمخافة والخشية، حتى لو تليت على زنديق ملحد مصمم على اعتقاد نفي البعث والنشور؛ لهدت قواه وأرعبت قلبه وأضعفت على نفسه وزلزلت اعتقاده، فجزى الله قائلها عن الإسلام أفضل ما جزى به وليا من أوليائه، فما أبلغ نصرته له تارة بيده وسيفه وتارة بلسانه ونطقه وتارة بقلبه وفكره، إن قيل: جهاد وحرب فهو سيد المجاهدين والمحاربين، وإن قيل: وعظ وتذكير فهو أبلغ الواعظين والمذكرين، وإن قيل: فقه وتفسير فهو رئيس الفقهاء والمفسرين، وإن قيل: عدل وتوحيد فهو إمام أهل العدل والموحدين:
ليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد (1) وقال في ذيل الخطبة 221: من أراد أن يعظ ويخوف ويقرع صفاة القلب، ويعرف الناس قدر الدنيا وتصرفها بأهلها، فليأت بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح وإلا فليمسك، فإن السكوت أستر، والعي خير من منطق يفضح صاحبه، ومن تأمل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه: " والله ما سن الفصاحة لقريش غيره " وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس وتلي عليهم أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدي بن الرقاع:
" قلم أصاب من الدواة مدادها " (2)