وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا، وقد تقدم وتأخروا؛ لأن كلامه (عليه السلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي.
فأجبتهم إلى الابتداء بذلك، عالما بما فيه من عظيم النفع ومنشور الذكر، ومذخور الأجر، واعتمدت به أن أبين عن عظيم قدر أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الفضيلة، مضافة إلى المحاسن الدثرة، والفضائل الجمة، وأنه (عليه السلام) انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين، الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر، والشاذ الشارد.
فأما كلامه فهو البحر الذي لا يساجل، والجم الذي لا يحافل. وأردت أن يسوغ لي التمثل في الافتخار به (عليه السلام) بقول الفرزدق:
اولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامع (1) وقال في ذيل قوله (عليه السلام): " قيمة كل امرئ ما يحسنه "، وهي الكلمة التي لا تصاب لها قيمة، ولا توزن بها حكمة، ولا تقرن إليها كلمة (2).
وقال في ذيل قوله (عليه السلام): " فإن الغاية أمامكم، وإن وراءكم الساعة تحدوكم.
تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بأولكم آخركم "، أقول: إن هذا الكلام لو وزن، بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بكل كلام لمال به راجحا، وبرز عليه سابقا. فأما قوله (عليه السلام): " تخففوا تلحقوا " فما سمع كلام أقل منه مسموعا ولا أكثر منه محصولا، وما أبعد غورها من كلمة! وأنقع (3) نطفتها (4) من حكمة! وقد نبهنا