الآيات ومنهن آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فلا يغيب عنه استجلاء ما بها من الحكم والأحكام.
وإنه ليجهر بتلاوته، تلاوة محب مشوق، فيتحرى صحة الضبط، وسلامة النطق، ودقة الأداء، مستمتعا بعذوبة كلماته وفقراته مرنمة منغمة.
فإذا هو يجمع إلى إحكام الوصل والوقف، والمد والإمالة، والإظهار والإدغام، والتحريك والتسكين، والتخفيف والتنوين ألوانا من الصور الصوتية التي توافق كل حرف وكلمة وآية، وتطابق مغزاها، حتى لتوشك المعاني أن تتجسد أمام العيون والنواظر قبل أن تطرق الأسماع إلى القلوب..
بحسه الجمالي المتميز، وذهنه الألمعي الثاقب، وإدراكه الروحي المشرق. قرأ القرآن فأحسن ترتيله، وجمعه فاستظهر ما فيه، وتدبره فبلغ أعماقه ووعى لباب معانيه.
وعنت له اللغة العربية كما لم تعن لغيره، لان صعبها، وذل غريبها، وتفتحت أبوابها، فإذا هو مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها به ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها.
فالمعلوم الثابت أنه هو الذي استولدها قواعدها، واستنبطها أسسها، وحدد لها جوامع الأصول التي لا بد أن تنهض عليها لتظل كحالها عند أهلها الأوائل، سليمة التركيب، مبرأة من عيوب اللحن والخطأ، ومناقص التحريف والالتواء.
إنه صاحب " علم النحو " الذي حفظ بناء العربية قائما، ولولاه لمال، ولشابها من لكنة الشعوب الغريبة التي دخلت الإسلام ما يغلب على نقاء جوهرها الأصيل، ولتبدلت لغة أخرى غير لغة القرآن. ولاندثرت اندثار اللغات القديمة، وماتت كاللاتينية التي غدت طللا دارسا بعد أن تبلبلت بها لهجات الأوروبيين.