منهم النصف، وقتل جند الإسلام كلهم يومئذ النصف الآخر.
وطار ذكر بلائه في الحرب فملأ الآفاق قرونا عدة، حتى اتخذه الفرنج والروم رمزا للتفوق الحربي الذي لا يضارع، فرسموا صوره في بيعهم ومعابدهم، حاملا سيفه، مشمرا للقتال، مجسدا لبطولة الأبطال وفروسية الفرسان.. وصوره الترك والديلم على سيوفهم تفاؤلا به، واستجلابا للنصر الذي كان حليفه في كل ميدان.
واقترنت شجاعته بهيبة وثقت له في الظفر، كانت تتزلزل لها القلوب في الصدور، وتدور العيون في المحاجر، وتلتوي الأقدام.
والذين يزعمون أنه لم يكن صاحب سياسة ولا دهاء، إنما يرون السياسة على غير وجهها الحقيقي، ويجردونها من مضمونها الأصيل. فليست أخذا بالغدر، ومقارفه للفجر، أو تكون إذن نوعا من الخسة النفسية والخبث الرخيص الذي يتردى بإنسانية الانسان وكرامته إلى الحضيض، ولا يستعصي انتهاجها على أي وغد خسيس.. قيل في دهاء معاوية ما قيل، فكان رد علي على هذا الزعم المأفوك: " والله ما معاوية بأدهى مني. ولكنه يغدر ويفجر، وأنا امرؤ لا أحب الغدر ".
وإذا كانت الشجاعة قد اقترنت فيه بالهيبة فقد اجتمعت له إليهما قوة بدنية " قرهقلية " كما يقال في الأساطير. فهو الذي خلع باب حصن ناعم وتترس به وبثقله تنوء العصبة أولو الأيد من الرجال. وهو الذي اقتلع الصخرة التي آدت اقتلاعها العشرات وتفجر من تحتها الماء. وهو الذي أسعفته يقظته كما أسعفته قوته فمد إحدى يديه إلى فارس هم أن يقتله، فخطفه بها من فوق جواده، وجلد به الأرض جلدا شديدا حتى حطمه، وأحاله كتلة هامدة من اللحم والدم وهشيم العظام.