ولا ندهش حين نعلم أنه على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان وحده الحافظ للقرآن العارف به، المحيط بأسراره.
ثم لا ندهش ونحن نراه أول من اشتغل بجمعه.
اشتغل علي بحفظ كتاب الله اشتغال من يحرص الحرص كله على هذا النور الذي أنزله ربه هدى ورحمة للعالمين، أن تشرد منه عبارة، بل لفظة، بل إشارة.
وعنى بجمعه عناية من يخشى أن تتبعثر بعض آياته وسوره في الصدور على غير نسقها المقدور، فتختلط وتتداخل، يتأخر منها ما هو أولى بالتقديم ويتقدم ما هو أولى بالتأخير. وأكب على الترسل في قراءته ترسل ذي حس أدبي مرهف بلا نظير، تفتنه البلاغة، وتشغفه الفصاحة، ويولع ولوع متشه سحر بيانه، يتطرق فيه من تذوق حلاوة المتعة العاطفية الشعورية من جمال عباراته إلى التنعم بكمال المتعة الروحية العقلية من جلال معانيه.
فماذا عسى يتهيأ اجتناؤه للناس من ثمار هذا الاستيعاب؟
ما الذي يمكن أن يطالعهم به من له كالإمام وضاءة النفس، ودقة الحس، وشمول النظرة، وتفتح القريحة، وألمعية الفكر، ونقاوة الجنان؟
إنه ليخلو إلى القرآن خلو خاشع متعبد، سجي الليل، أو هدأ السحر، أو أسفر الفجر، أو علت ضحوة النهار فلا يكاد يشغله في خلوته هذه، التي يرجو بها وجه ربه شئ من شواغل دنياه أن يرتل ويعيد، ويردد ويزيد، وجوارحه جميعها في ملاك بيانه العذب الآسر، وأسلوبه السماوي الساحر.
وإنه ليقبل عليه إقبال متأمل متدبر، يأخذ بمجامع المدلولات في سياق العبارات وفي مباني الكلمات وفيهن الجلي والخفي. والصريح والغيبي، فلا يفوته أن يحيط بظاهرها وباطنها إحاطة شمول.. ويتبصر مختلف عظائم السور وجلائل