بل لم يكن ليغيب عن فطنته أن معظم من أظلهم حلمه ووهبهم الحياة والحرية لن يلبثوا أن ينكصوا على الأعقاب فيقابلوه بالكفران دون الشكران، وبالجحود دون العرفان ما إن تتاح لهم فرصة للتنكر وللتنمر. ومع ذلك فقد كان دائما يتوقى مدافعة الإساءة بالإساءة، ومغلبة العيب بالعيب، متنزها عن تناول سير شانئيه بالقدح والتجريح. وتلك لا ريب مكرمة تعز في الخلائق وتستعصي على أنفس البشر إلا من طهر الله قلبه من الغل، وعصم لسانه وفمه عن نهش الجيف، ولعق الأوحال.
أما مواهبه وقدراته فأعسر على الإلمام والإحاطة. ألم تر كيف تدعيه كل فرقة وتتجاذبه كل طائفة، وتتمسح فيه كل مدرسة فكرية تريد أن تفضل غيرها في ميادين الحكمة والعلم، وتبز كل ما عداها من ذوات المذاهب والنظرات؟..
وهل ثمة بين العلماء من قد أوتي من بسطة العلم ما يبلغه من العلوم الربانية والبشرية مثل مبلغ الإمام؟ وإنه لهو الذي - بعصارة ذهنه الملهم الخصيب - روى جذورها، ونمى دوحها، وقوى فروعها، وخضر ورقها، ونضر زهرها، وأينع ثمرها، وأدنى قطوفها.
وكان ذا نظرة نفاذة، وروح نقية، وفكر عملاق. يتعمق ما انتهى إليه من معارف الذين سبقوه، فلا يتقبلها على نفس وجهها، ولا يختزنها في واعيته كخرنة المال إلا أن يعاير وينقد، فيقر منها ما يقر، ويضيف إليها ما يضيف، أو يغير فيها ما يغير، ويتأمل آيات الله في ملكوته، فينبهر ويعتبر ويفكر، ويشهد ظواهر الخلائق وخصائصها شهود متدبر يسير ويخبر ويفسر، ويغوص في أغوار الأنفس، مترحلا في خفاياها وهو يحل ويقدر ويبرر. فكره المتوقد النفاد أداته، وروحه الشفيفة الصافية هاديه. أحاد بمعارف الأولين، وارتاد للآخرين، ممتثلا في كل