الأول في توجيه سياسة المال توجيهه سياسة الحكم والسلطان.
وإنما إقبال الدنيا عليه وإدبارها عنه سيان.. ما أتاه من عروضها كما ولى عنه، وما ولى كما أتاه، كلاهما لا يساوي مثل خردلة، لا يهفو منها إلى شئ، ولا يهتم منها بشئ، ولا يثق منها في شئ، بل هو كما يقول: " أوثق بما في يد الله منه بما في يده "، وهو غني عنها لأنه على إغرائها عزيز، وبملكها مستهين، وعن نشبها راغب، وهو - اعتزازا بقدره - تحصن بمعقل القنوع والتأبي والزهد دون سطوة إغرائها، وزخرف عطائها فلم يشغله عن وعيه بزيف دعوتها، وتفه أمرها، وهو إن شأنها على الله شاغل ولو كان مجرد أمنية تراود الخيال.
فكأنما كان شعاره حكمته المعروفة:
" من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته.. ".
وهو، إلى زهده، أكرم وأسخى من يحسبون في عداد الكرام الأسخياء ومن عرفهم الكرم والسخاء، ولعله كان أسخى لأنه كان أزهد، أو لعله كان أزهد لأنه كان أسخى، فهو يخرج مما يملك عن قنوع وزهادة كما يخرج منه عن سخاء وجود.
إنه لا يسخو فقط وماله كثر يفيض عن حاجته، بل يسخو وماله أيضا قل، وأقل القل، يضيق عن البذل، ولا يحمل الكل، وينوء بأغث ضرورات حياته حتى ليوشك ألا ينهض بأوده وأود عياله.
وهل كانت الدنيا كلها تساوي - في حسابه - سوى قلامة ظفر أو قدر صفر لا يجدي عليه أن يأخذ منها، ولا ينقصها أن ينفق؟ فلماذا إذن يضن وهو الذي ضرب للناس بفعله مثلا للبذل، ودعا الكرام إلى محاولة سلوك مسلكه، حين اليسر وحين العسر على السواء، وسعهم اللحاق به على النهج أو لهثوا دون أن يقطعوا نفس شوطه؟