ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون. كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين. كذلك وأورثناها قوما آخرين. فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين. ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين. من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين. ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين) [الدخان: 17 - 23] فقوله تعالى (وأترك البحر رهوا) أي ساكنا على هيئته لا تغيره عن هذه الصفة، قاله عبد الله بن عباس ومجاهد وعكرمة والربيع والضحاك وقتادة وكعب الأحبار وسماك بن حرب وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم * فلما تركه على هيئته وحالته وانتهى فرعون فرأى ما رأى وعاين ما عاين. هاله هذا المنظر العظيم، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك، من أن هذا من فعل رب العرش الكريم فأحجم (1) ولم يتقدم، وندم في نفسه على خروجه في طلبهم والحالة هذه، حيث لا ينفعه الندم لكنه أظهر لجنوده تجلدا (2) وعاملهم معاملة العدا، وحملته النفس الكافرة، والسجية الفاجرة، على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه، وعلى باطله تابعوه، أنظروا كيف انحسر البحر لي لأدرك عبيدي الآبقين من يدي، الخارجين عن طاعتي، وبلدي، وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم، ويرجو أن ينجو، وهيهات ويقدم تارة ويحجم تارات.
فذكروا أن جبريل عليه السلام تبدى في صورة فارس راكب على رمكة (1) حايل فمر بين يدي فحل فرعون لعنه الله، فحمحم إليها، وأقبل عليها، وأسرع جبريل بين يديه، فاقتحم البحر واستبق الجواد وقد أجاد فبادر مسرعا; هذا وفرعون لا يملك من نفسه ضرا ولا نفعا فلما رأته الجنود قد سلك البحر، اقتحموا وراءه مسرعين، فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين، حتى هم أولهم بالخروج منه، فعند ذلك أمر الله تعالى كليمه، فيما أوحاه إليه أن يضرب البحر بعصاه فضربه فارتطم عليهم البحر كما كان، فلم ينج منهم إنسان قال الله تعالى (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين. ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [يونس: 90 - 92] أي في انجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد، وإغراقه أعداءه، فلم يخلص منهم أحد، آية عظيمة، وبرهان قاطع، على قدرته - تعالى - العظيمة. وصدق رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة، والمناهج المستقيمة، وقال تعالى (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فاتبعه فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين. فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وأن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) [الشعراء: 65 - 68] يخبر تعالى عن كيفية غرق فرعون، زعيم كفرة القبط، وأنه لما جعلت الأمواج تخفضه تارة، وترفعه أخرى،