البداية والنهاية - ابن كثير - ج ١ - الصفحة ١٣٣
صنع فيها ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء فلم يرجع إليه فأرسل الحمامة فرجعت إليه لم يجد لرجلها موضعا فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها ثم مضت سبعة أيام ثم أرسلها لتنظر له ما فعل الماء فلم ترجع فرجعت حين أمست وفي فيها ورق زيتونة فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الأرض * ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع إليه فعلم نوح أن الأرض قد برزت فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن ارسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنين، برر وجه الأرض وظهر البر وكشف نوح غطاء الفلك * وهذا الذي ذكره ابن إسحاق هو بعينه مضمون سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب * قال ابن إسحاق وفي الشهر الثاني من سنة اثنين في ست وعشرين ليلة منه (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) [هود: 48] وفيما ذكر أهل الكتاب أن الله كلم نوحا قائلا له: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك وجميع الدواب التي معك ولينموا وليكبروا (1) في الأرض. فخرجوا وابتنى نوح مذبحا لله عز وجل وأخذ من جميع الدواب الحلال والطير الحلال فذبحها قربانا إلى الله عز وجل وعهد الله إليه أن لا يعيد الطوفان على أهل الأرض. وجعل تذكارا لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام وهو قوس وقزح الذي قدمنا عن ابن عباس أنه أمان من الغرق * قال بعضهم فيه إشارة إلى أنه قوس بلا وتر أي أن هذا الغمام لا يوجد منه طوفان كأول مرة.
وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان واعترف به آخرون منهم وقالوا إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا. قالوا ولم نزل نتوارث الملك كابرا عن كابر من لدن كيومرث يعنون آدم إلى زماننا هذا. وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عباد النيران وأتباع الشيطان.
وهذه سفسطة منهم وكفر فظيع وجهل بليغ ومكابرة للمحسوسات وتكذيب لرب الأرض والسماوات وقد أجمع أهل الأديان الناقلون عن رسل الرحمن مع ما تواتر عند الناس في سائر الأزمان على وقوع الطوفان وأنه عم جميع البلاد (2) ولم يبق الله أحدا من كفرة العباد استجابة لدعوة نبيه المؤيد المعصوم وتنفيذا لما سبق في القدر المحتوم.
ذكر شئ من اخبار نوح عليه السلام قال الله تعالى (إنه كان عبدا شكورا) [الاسراء: 3]. قيل إنه كان يحمد الله على طعامه

(١) وفي نسخة: وليكثروا.
(٢) في الطوفان مسائل عديدة أجاب عنها الدكتور النجار في قصص الأنبياء ص ٣٦ - ٣٧: الأولى: هل عم طوفان نوح الكرة الأرضية.
والجواب: أن بعض العلماء يميل إلى عمومه. ويقول بعض علماء الجيولوجيا: إننا كلما بحثنا في أعالي الجبال وجدنا بقايا حيوانية من الاحياء التي لا تعيش إلا في الماء: وهذا يستدعي وجود طوفان على هذه الجبال بل عدد من الطوفانات لوجود الاختلاف في عمر هذه البقايا، فلا مانع من أن يكون طوفان نوح أحدها ويكون قد عم. ويستأنس لذلك بقوله تعالى (وجعلنا ذريته هم الباقين).
ويميل فريق إلى أن الطوفان لم يكن عاما بل طغيان الماء كان على الجهة التي كان يسكنها نوح وقومه. وأما بقية بقاع الأرض فلم يعمها هذا الطوفان، ويستأنس لذلك بأن الهند كانوا يزعمون أن عمران بلادهم يمتد في الماضي إلى تاريخ أبعد من الذي قدرته التوراة لنوح وطوفانه. وأن عمرانهم متصل من أعمق أجبال التاريخ إلى اليوم. وأنتم تعلمون أني غير واثق من التاريخ الذي تقدره التوراة; فربما كان نوح أبعد من ذلك بعدا يشمل ما يدعيه أهل الهند.
وعلى كل حالة فالمسألة ليس فيها نص من القرآن، بل كل ما فيه من هذه الناحية أن قوم نوح كفروا وعصوا الرسول فأغرقهم الله بالطوفان ونجى نوحا ومن معه في الفلك وجعل ذريته الباقين; فالعموم يحتمل والخصوص محتمل.
والذي أميل إليه أن يكون خاصا وأن النوع الانساني لم يكن منتشرا في جميع الكرة بل كانوا منحصرين في الناحية التي عمها الطوفان، وأنهم قد هلكوا وبقي نوح وذريته.
الثانية: ما ذنب الأطفال من قوم نوح حتى هلكوا مع الآثمين من آبائهم وأمهاتهم؟
والجواب: أن الله سبحانه وتعالى جرت عادته بأن النقمة لا تصيب الذين ظلموا خاصة وفي علم الظالمين بهلاك أولادهم معهم زيادة تعذيب ونكال لهم; على أننا في كل يوم نرى الأطفال يهلكون بمختلف الأمراض وليس ذلك عقابا للأطفال على ذنوب ارتكبوها أو آثام اقترفوها. ولكن ذلك من باب وجود المسبب عند وجود سببه.
وتلك الأسباب هي الأمراض والعلل التي هي جند الله (وما يعلم جنود ربك إلا هو) وبهذا لا نحتاج إلى ما تكلفه بعض العلماء والمفسرين: من أن الله تعالى أعقم أرحام نساء قوم نوح قبل الطوفان بأربعين سنة فلم يولد لهم في تلك المدة مولود، وبذلك اشترك جميع قومه في الاثم وهم مكلفون فحق عليهم العذاب وحاق بهم الهلاك.
على أننا نرى الزلازل تعمل عملها في الناس بلا تمييز بين البار والفاجر وتخسف الأرض بسكانها كما حصل في سان فرنسيسكو بأمريكا في زلزالها المشهور وقد وقع في زماننا، وكما حصل في زلزال اليابان سنة 1923 وهو قريب العهد منا جدا وكما يحصل في إيطاليا بسبب بركان " فيزوف " فقد تطغى حممه فتغطي البلاد القريبة منه فلا يشعر أهل القرية إلا بالحمم البركانية يسيل سيلها في طرق بلدهم فتهلكهم وتغطيها. وهذا حاصل كثيرا.
وهذه الطيارات التي تسقط من الجو بأسباب مختلفة لا يهلك من هلك فيها بآثامهم ولا ينجو فيها الناجون ببرهم. ولكن أحاظ قسمت وجدود. وما حادثة المنطاد الإنجليزي (ر 101) سنة 1930 منا ببعيدة، وكذلك البواخر الجبارة العظيمة الحجم والقوة " كتايتانك " التي غرقت منذ عشرين عاما والباخرة الإنجليزية " لويزيتانيا " التي غرقت في أيام الحرب العظمى وكان في كلتيهما من العلماء والكتاب والأغنياء والمهندسين والمخترعين عدد عظيم، فقد هلكوا بآجالهم (إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
الثالثة: أين جبل الجودي الذي استوت عليه سفينة نوح؟
والجواب: جبل الجودي في نواحي ديار بكر من بلاد الجزيرة، وهو يتصل بجبال أرمينية. قال في القاموس المحيط: والجودي جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح عليه السلام، ويسمى في التوراة " أراراط ".
الرابعة: ما حجم سفينة نوح؟
(١٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 128 129 130 131 132 133 135 136 137 138 139 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 المنهاج في تأليف الكتاب 5
2 فصل 9
3 فصل 10
4 وأما الكرسي 14
5 ذكر اللوح المحفوظ 15
6 ما ورد في خلق السماوات والأرض وما بينهما 16
7 ما جاء في سبع أرضين 20
8 فصل في البحار والأنهار 23
9 فصل 29
10 ذكر ما يتعلق بخلق السماوات وما فيهن من الآيات 30
11 أ - الاجماع على أن السماوات مستديرة ب - حديث سب الدهر ج - اليونانيون ودمشق د - هاروت وماروت المجرة وقوس قزح 40
12 باب ذكر خلق الملائكة وصفاتهم 41
13 فصل 52
14 فصل 60
15 باب خلق الجان وقصة الشيطان 61
16 باب خلق آدم عليه السلام 74
17 احتجاج آدم وموسى عليهما السلام 91
18 الأحاديث الواردة في خلق آدم 95
19 قصة قابيل وهابيل 103
20 وفاة آدم ووصيته إلى ابنه شيث 109
21 إدريس عليه السلام 111
22 قصة نوح عليه السلام 133
23 ذكر شئ من أخبار نوح عليه السلام 133
24 صومه عليه السلام 135
25 حجه عليه السلام 135
26 وصيته لولده 136
27 قصة هود عليه السلام 137
28 قصة صالح نبي ثمود عليه السلام 150
29 ذكر أبي رغال من بني ثمود 158
30 مرور النبي بوادي الحجر من أرض ثمود عام تبوك 159
31 قصة إبراهيم خليل الرحمن 160
32 ذكر مناظرة إبراهيم الخليل مع من ادعى الربوبية وهو أحد العبيد الضعفاء 170
33 هجرة الخليل إلى بلاد الشام ثم الديار المصرية واستقراره في الأرض المقدسة 172
34 ذكر مولد إسماعيل من هاجر 176
35 ذكر مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه إلى جبل فاران وهي أرض مكة وبنائه البيت العتيق 176
36 قصة الذبيح 181
37 مولد إسحاق 185
38 بناء البيت العتيق 187
39 ذكر ثناء الله ورسوله الكريم على عبده وخليله إبراهيم 191
40 قصره في الجنة 199
41 صفة إبراهيم عليه السلام 200
42 وفاة إبراهيم وما قيل في عمره 200
43 ذكر أولاد إبراهيم الخليل 202
44 قصة مدين قوم شعيب عليه السلام 212
45 باب ذرية إبراهيم 220
46 إسماعيل عليه السلام 220
47 إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والتسليم 222
48 ما وقع من الأمور العجيبة في حياة إسرائيل 227
49 قصة نبي الله أيوب 254
50 قصة ذي الكفل 259
51 باب ذكر أمم أهلكوا بعامة 261
52 قصة قوم يس وهم أصحاب القرية 264
53 قصة يونس 267
54 فضل يونس 272
55 قصة موسى الكليم 273
56 فصل 296
57 هلاك فرعون وجنوده 309
58 امر بني إسرائيل بعد هلاك فرعون 316
59 دخول بني إسرائيل التيه وما فيه من الأمور العجيبة 323
60 سؤال الرؤية 327
61 قصة عبادتهم العجل في غيبة كليم الله عنهم 330
62 حديث آخر بمعنى ما ذكره ابن حبان 338
63 قصة بقرة بني إسرائيل 339
64 قصة موسى والخضر عليهما السلام 341
65 حديث الفتون المتضمن قصة موسى مفصلا من أولها إلى آخرها 347
66 بناء قبة الزمان 356
67 قصة قارون مع موسى عليه السلام 358
68 باب فضائل موسى عليه السلام وشمائله وصفاته ووفاته 362
69 حجته عليه السلام إلى البيت العتيق 366
70 وفاته عليه السلام 367
71 نبوة يوشع وقيامه بأعباء بني إسرائيل بعد موسى وهارون (الأسباط - بلعام - وفاة موسى وهارون - فتح أريحا) 370
72 قصتا الخضر وإلياس عليهما السلام 377
73 ذكر الاختلاف في اسم الخضر ونسبه وزمن وجوده ونبوته، وحياته إلى الآن، مفصلا 378
74 وأما الياس عليه السلام 391