ابن عروة وثابت وهشام، عن أبيه عن عائشة، وثابت عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون النخل فقال: لو لم تفعلوا لصلح قال فخرج شيصا، فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ فقالوا: قلت كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
قال أبو محمد: فهذا بيان جلي - مع صحة سنده - في الفرق بين الرأي في أمر الدنيا والدين، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يقول الدين إلا من عند الله تعالى، وأن سائر ما يقول فيه برأيه ممكن فيه أن يشار عليه بغيره فيأخذ عليه السلام به، لان كل ذلك مباح مطلق له، وإننا أبصر منه بأمور الدنيا التي لا خير معها إلا في الأقل، وهو أعلم منا بأمر الله تعالى وبأمر الدين المؤدي إلى الخير الحقيقي، وهذا نص قولنا. وبالله تعالى التوفيق. وفي هذا كفاية والحمد.
ومن ذلك ما قال أبو بكر يوم الحديبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال له بعض من حضر: أرى أن نميل على عيال هؤلاء - فقال أبو بكر: نرى أن نمضي لوجهنا فهذا كله مباح للامام أن يغزو، وله أن يؤخر الغزو ويومه ذلك وشهره ذلك، ويغزو بعد ذلك.
فاعلم الآن أن الاجتهاد إنما هو طلب الحقيقة من الوجوه المؤدية إليها، لا من حيث لا يؤدي إليها والطلب، كما ذكرنا هو الاستدلال، فالاستدلال والاجتهاد شئ واحد، وقد يستدل من لا يقع على حقيقة الدليل. وكون الشئ في نفسه حقا هو شئ آخر. لأنه قد يكون الشئ حقا ولا يوافق له طالبه، ولا يضر ذلك الحق، كما أن في منازلنا أشياء لا يعلمها غيرنا من الناس، وليس جهل من جهلها أو ظن فيها غير ما فيها مما يحيل الحق عن وجهه، كما لا نريده علم من علمه درجة في أنه حق، والحق المعلوم والحق المجهول سواء في أنهما حق، واقعان تحت جنس الحق، وكل شيئين وقعا تحت نوع واحد أو تحت جنس واحد، فإنهما متساويان في ذلك النوع وذلك الجنس مساواة صحيحة، نعني فيما أوجبه لهما تلك الجنسية، أو تلك النوعية وكل من بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر فقد لزمه البحث عنه، فإن لم يفعل فقد عصى الله تعالى.
وكل من قامت عليه حجة من أصول صححها. وأقر بأنها حق، فلاحت له وفهمها، ثم لم يرجع إلى موجبها لتقليد، أو لأنه ظن أن ههنا حجة أخرى لا يعلمها فهو فاسق، وذلك نحو من أقر بخبر الواحد، فأتاه حديث صحيح مسند، فتركه