لو أوجب شيئا في الدين بغير وحي، لكان مفتريا على ربه تعالى، وقد عصمه الله عز وجل من ذلك، وكفر من أجازه عليه، فصح أنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئا إلا بوحي، فسقط الاجتهاد الذي يدعيه أهل الرأي أو القياس جملة. وقال تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) فصح بهذه الآية أن كل نبي كان قبله، فهكذا كانوا أيضا، إنما اتبع كل نبي شرعته التي أوحي إليه بها فقط.
وأما أمور الدنيا ومكايد الحروب - ما لم يتقدم نهي عن شئ من ذلك - وأباح الله تعالى له التصرف فيه كيف شاء، فلسنا ننكر أن يدبر عليه السلام كل ذلك على حسب ما يراه صلاحا، فإن شاء الله تعالى إقراره عليه أقره، وإن شاء إحداث منع له من ذلك في المستأنف منع، إلا أن كل ذلك مما تقدم الوحي إليه بإباحته إياه ولا بد.
وأما في التحريم والايجاب فلا سبيل إلى ذلك البتة، وذلك مثل ما أراد النبي (ص أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة فهذا مباح، لان لهم أن يهبوا من أموالهم ما أحبوا ما لم ينهوا على ذلك، ولهم أن يمنعوه ما لم يؤمروا بإعطائه، وكذلك منازله صلى الله عليه وسلم في حروبه، له أن ينزل من الأرض حيث شاء، ما لم ينه عن مكان بعينه، أو يؤمر بمكان بعينه، وكذلك قوله السلام في تلقيح ثمار أهل المدينة، لأنه مباح للمرء أن يلقح نخله ويذكر تينه، ومباح أن يترك فلا يفعل شيئا من ذلك.
وقد أخبرني محمد بن عبد الله الهمداني عن أبيه: أنه ترك تينه سنين دون تذكير فاستغنى عن التذكير، فلعل النخل كذلك، لو توبع عليه ترك التلقيح سنة بعد سنة لاستغنى عن ذلك. وهذا كله ليس من أمور الدين الواجبة والمحرمة في شئ، إنما هي أشياء مباحة من أمور المعاش، من شاء فعل ومن شاء ترك، وإنما الاجتهاد الممنوع منه ما كان في التحريم والايجاب فقط بغير نص، وقد نص النبي عليه السلام في حديث التلقيح على قولنا. وقال صلى الله عليه وسلم: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
وقد حدثنا بهذا الحديث عبد الله بن يوسف بن ناهي، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وعمر والناقد، وكلاهما عن أسود بن عامر، ثنا حماد بن سلمة، عن هشام