وقد أجبنا على نظير هذا الاستدلال في مبحث القياس، وبينا أن أحكام الشريعة بمفاهيمها الكلية، لا تضيق عن مصالح العباد ولا تقصر عن حاجاتهم، وهي بذلك مسايرة لمختلف الأزمنة والأمكنة والبيئات والأحوال وبخاصة إذا لوحظت مختلف المفاهيم بعناوينها الأولية والثانوية وأحسن تطبيقها والاستفادة منها.
والحقيقة أن تأثير الزمان والمكان والأحوال إنما هو في تبدل مصاديق هذه المفاهيم.
فالآية الآمرة بالإستعداد بما يستطيعون له من قوة لإرهاب أعداء الله قد لا نجد لها مصداقا في ذلك الزمن إلا بإعداد السيوف والرماح والتروس والخيول وأمثالها، لأن القوة السائدة هي من هذا النوع، ولكن تبدل الزمان وتغير وسائل الحرب حول الاستعداد إلى إعداد مختلف الوسائل السائدة في الأمم المتحضرة للحروب كالقنابل النووية وغيرها، فالمفهوم هو وجوب الاستعداد بما يستطاع لهم من قوة لم يتغير في الآية، وإنما مصاديقه وهكذا...
فالتبدل في الحقيقة، لم يقع في المفاهيم الكلية، وإنما وقع في أفرادها ومصاديقها، فما كان مصداقا لمفهوم ما ربما تحول إلى مصداق لمفهوم آخر.
ولقد وسع لنا الشارع المقدس بما شرحه لنا من العناوين الثانوية من جهة، وبفتحه لنا أبواب الإجتهاد سواء في التعرف على أحكامه الكلية أم التماس مصاديقها بما سد حاجاتنا الأساسية إلى تطوير أنفسنا، ومسايرة عصورنا ضمن إطار ما جاء به من أحكام، ولكن لا على أن نفسح المجال أمام أوهامنا وظنوننا لنتحكم في مصائر العباد كيفما نشاء، وما دام مقياس الحجية بأيدينا - وهو ما سبق أن عرضناه - فلا مجال لاعتماد ما يخالف هذا المقياس، والأساس فيه هو تحصيل العلم بالحكم أو العلمي، ولا أقل من تحصيل الوظيفة التي يأمن الإنسان من غائلة العقاب.