بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما تفسير سورة البقرة (1) هذه السورة مدنية نزلت في مدد شتى، وفيها آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(١) هذه السورة مترامية أطرافها، و أساليبها ذات أفنان، قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقا لتلقيبها فسطاط القرآن. فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسان. و على الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لنا من تفسيرها، و لكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها. وقد حيكت بنسج المناسبات و الاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام، و سدى متين من فصاحة الكلمات.
و معظم أغراضها يتقسم إلى قسمين: قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه و علو هديه و أصول تطهيره النفوس، و قسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه و إصلاح مجتمعهم.
و كان أسلوبها أحسن ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية و أساليب الكتب التشريعية و أساليب التذكير و الموعظة. يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين، و يحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديا إجماليا بحروف التهجي المفتتح بها رمزا يقتضي استشرافهم لما يرد بعده، و انتظارهم لبيان مقصده، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن، فتحول الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقعا على نفوسهم، فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله: (و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) [البقرة: ٢٣] الآيات.
فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب و هديه، و تخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب و انتفاعهم بهديه أصنافا أربعة، و كانوا قبل الهجرة صنفين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي، و إذ قد كان أخص الأصناف انتفاعا بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة يعني المسلمين - ابتدىء بذكرهم، و لما كان أشد الأصناف عنادا وحقدا صنفي المشركين الصرحاء، و المنافقين، لف الفريقان لفا واحدا، فقورعوا بالحجج الدامغة و البراهين الساطعة، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويها لنفاقهم و إعلانا لدخائلهم، ورد مطاعنهم، ثم كان خاتمة ما قرعت من أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بداء تحديا يلجئهم إلى الاستكانة و يخرس ألسنتهم عن التطاول و الإبانة، و يلقي في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة و صدق الرسول الذي تحداهم، فكان ذلك من رد العجز على الصدر، فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم و خلق السماوات و الأرض، و أنعم عليهم بما في الأرض جميعا، و تخلص إلى صفة بدء خلق الإنسان، فإن في ذلك تذكيرا لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي تقوم نوح و من بعدهم، و منه على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات هذا العالم و بمزيته بعلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى، و كيف نشأت عداوة الشيطان له و لنسله لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها و لمحاسبتها على دعواتها، فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع و هم أهل الكتاب الذين هم أشد الناس مقاومة لهدي القرآن، و أنفذ الفرق قولا في عامة العرب، لأن أهل الكتاب يومئذ هم أهل