تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ١١ - الصفحة ٣٠٩
وتعقيب الشئ انما يكون بالمجئ بعده والاتيان من عقبه فتوصيف المعقبات بقوله " من بين يديه ومن خلفه " انما يتصور إذا كان سائرا في طريق ثم طاف عليه المعقبات حوله وقد أخبر سبحانه عن كون الانسان سائرا هذا السير بقوله " يا أيها الانسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " الانشقاق: 6 وفى معناه سائر الآيات الدالة على رجوعه إلى ربه كقوله " واليه ترجعون " يس: 83 " واليه تقلبون " العنكبوت: 21 فللانسان وهو سائر إلى ربه معقبات تراقبه من بين يديه ومن خلفه.
ثم من المعلوم من مشرب القرآن ان الانسان ليس هو هذا الهيكل الجسماني والبدن المادي فحسب بل هو موجود تركب من نفس وبدن والعمدة فيما يرجع إليه من الشؤون هي نفسه فلها الشعور والإرادة واليها يتوجه الأمر والنهي وبها يقوم الثواب والعقاب والراحة والألم والسعادة والشقاء وعنها يصدر صالح الأعمال وطالحها واليها ينسب الايمان والكفر وان كان البدن كالآلة التي يتوسل بها في مقاصدها ومآربها.
وعلى هذا يتسع معنى ما بين يدي الانسان وما خلفه فيعم الأمور الجسمانية والروحية جميعا فجميع الأجسام والجسمانيات التي تحيط بجسم الانسان مدى حياته بعضها واقعة امامه وبين يديه وبعضها واقعة خلفه وكذلك جميع المراحل النفسانية التي يقطعها الانسان في مسيره إلى ربه والحالات الروحية التي يعتورها ويتقلب فيها من قرب وبعد وغير ذلك والسعادة والشقاء والأعمال الصالحة والطالحة وما ادخر لها من الثواب والعقاب كل ذلك واقعة خلف الانسان أو بين يديه ولهذه المعقبات التي ذكرها الله سبحانه شان فيها بما ان لها تعلقا بالانسان.
والانسان الذي وصفه الله بأنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا لا يقدر على حفظ شئ من نفسه ولا آثار نفسه الحاضرة عنده والغائبة عنه وانما يحفظها له الله سبحانه قال تعالى: " الله حفيظ عليهم " الشورى: 6 وقال: " وربك على كل شئ حفيظ " السبأ: 21 وقال يذكر الوسائط في هذا الامر " وان عليكم لحافظين " الانفطار: 10 فلو لا حفظه تعالى إياها بهذه الوسائط التي سماها حافظين تارة ومعقبات أخرى لشمله الفناء من جهاتها وأسرع إليها الهلاك من بين أيديها ومن خلفها غير أنه كما أن حفظها بأمر من الله عز شانه كذلك فناؤها وهلاكها وفسادها بأمر من الله لان الملك لله لا يدبر امره ولا
(٣٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 304 305 306 307 308 309 310 311 312 313 314 ... » »»
الفهرست