لكن التدبر في كلامه تعالى والبحث العميق يدفع ذلك فإن القرآن يرى أن الحكم يختص بالله تعالى، وليس لاحد من خلقه أن يبادر إلى تشريع حكم ووضعه في المجتمع الانساني، قال تعالى: (إن الحكم الا لله) يوسف: 40.
وقد أشار تعالى إلى لم ذلك في قوله: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم: 30 فتبين به أن معنى كون الحكم لله كونه معتمدا على الخلقة والفطرة منطبقا عليها غير مخالف لما ينطق به الكون والوجود.
وذلك أن الله سبحانه لم يخلق الخلق عبثا كما قال: (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا) المؤمنون: 115 بل خلقهم لأغراض إلهية وغايات كمالية يتوجهون إليها بحسب جبلتهم ويسيرون نحوها بفطرتهم بما جهزهم به من الأسباب والأدوات وهداهم إليه من السبيل الميسر لهم كما قال: (أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50، وقال: (ثم السبيل يسره) عبس: 20.
فوجود الأشياء في بدء خلقها مناسب لما هيئ لها من منزلة الكمال مجهز بقوى وأدوات يتوسل بها إلى غايتها، ولا يسير شئ منها إلى كماله المهيأ له إلا من طريق الصفات الاكتسابية والأعمال، فمن الواجب بالنظر إلى ذلك أن يكون الدين أعني القوانين الجارية في الصفات والأعمال الاكتسابية منطبقا على الخلقة والفطرة فإن الفطرة لا تنسى غايتها ولا تتخطاها، ولا تبعث نحو فعل ولا تزجر عن فعل إلا لدعوة ما جهزت به إليه، ولا يدعو الجهاز إلا لأجل ما جهز لأجله وهو الغاية.
فالانسان لما كان مجهزا بجهاز التغذية والنكاح كان حكمه الحقيقي في دين الفطرة هو التغذي والنكاح دون الجوكية والرهبانية مثلا، ولما كان مطبوعا على الاجتماع والتعاون كان من حكمه أن يشارك سائر الناس في مجتمعهم ويقوم بالاعمال الاجتماعية، وعلى هذا القياس.
فالذي يتعين للانسان من الاحكام والسنن هو الذي يدعوه إليه الكون العالمي الذي هو جزء حقير منه، وقد جهز وجوده بما يسوقه إليه من مرحلة الكمال، فهذا