وأما الثاني أعني ذكر ضرورة الوقوع فقد بين ذلك بالإشارة إلى حقيقة هي من النواميس العامة الجارية في الكون تنحل بها العقدة وتندفع بها الشبهة، وهى أن لكل أمة أجلا لا يتخطاهم ولا يتخطونه فهو آتيهم لا محالة، وإذا أتاهم لم يخبط في وقوعه موقعه ولا ساعة، وهو قوله تعالى: (لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) أي وأنتم أمة من الأمم فلا محالة لكم أيضا أجل كمثلهم إذا جاءكم لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون.
فإذا فقهوا هذا الكلام وتدبروه بأن لهم أن لكل أمة حياة اجتماعية وراء الحياة الفردية التي لكل واحد من أفرادها ولحياتها من البقاء والعمر ما قضى به الله سبحانه لها، ولها من السعادة والشقاوة والتكليف والرشد والغى والثواب والعقاب نصيبها، وهى مما اعتنى بها التدبير الإلهي نظير الفرد من الانسان حذو النعل بالنعل.
ويدلهم على ذلك ما يحدثهم به التاريخ ويفصح عنه الآثار من ديارهم الخربة ومساكنهم الخالية، وقد قص عليهم القرآن أخبار بعضهم كقوم نوح، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وكلدة قوم إبراهيم وأهل سدوم وسائر المؤتفكات قوم لوط والقبط قوم فرعون وغيرهم.
فهؤلاء أمم منقرضة سكنت أجراسهم وخمدت أنفاسهم ولم ينقرضوا إلا بعذاب وهلاك، ولم يعذبوا إلا بعد ما جاءتهم رسلهم بالبينات ولم يأت قوما منهم رسوله إلا واختلفوا في الحق الذي جاءهم فمنهم من آمن به ومنهم من كذب به وهم الأكثرون.
فهذا يدلهم على أن هذه الأمة - وقد اختلفوا في الحق لما جاءهم - سيقضى الله بين رسوله وبينهم فيأخذهم بما أخذ به من خلت من قبلهم من الأمم وإن الله لبالمرصاد.
وعلى الباحث المتدبر أن يتنبه لان الله سبحانه وإن بدء في وعيده بالمشركين غير أنه هدد في أثناء كلامه المجرمين فتعلق الوعيد بهم، ومن أهل القبلة مجرمون كغيرهم فلينتظروا عذابا واصبا يفصل به الله بينهم وبين نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولينسوا ما يلقيه الشيطان في روعهم أن أمتهم هذه أمة مرحومة رفع الله عنهم عذاب الدنيا