والكلام قد قوبل فيه قوله: (يهدى إلى الحق) بقوله: (من لا يهدى) مع أن الهداية إلى الحق يقابلها عدم الهداية إلى الحق، وعدم الاهتداء إلى الحق يقابله الاهتداء إلى الحق فلازم هذه المقابلة الملازمة بين الاهتداء بالغير وعدم الهداية إلى الحق، وكذا الملازمة بين الهداية إلى الحق والاهتداء بالذات فالذي يهدى إلى الحق يجب أن يكون مهتديا بنفسه لا بهداية غيره والذي يهتدى بغيره ليس يهدى إلى الحق أبدا.
هذا ما تدل عليه الآية بحسب ظاهرها الذي لا ريب فيه وهو أعدل شاهد على أن الكلام موضوع فيها على الحقيقة دون التجوزات المبنية على المساهلة التي نبنى عليها ونداولها فيما بيننا معاشر أهل العرف فننسب الهداية إلى الحق إلى كل من تكلم بكلمة حق ودعا إليها وإن لم يعتقد بها أو اعتقد ولم يعمل بها أو عمل ولم يتحقق بمعناها، وسواء اهتدى إليها بنفسه أو هداه إليها غيره.
بل الهداية إلى الحق أعني الايصال إلى صريح الحق ومتن الواقع ليس إلا لله سبحانه أو لمن اهتدى بنفسه أي هداه الله سبحانه من غير واسطة تتخلل بينه وبينه فاهتدى بالله وهدى غيره بأمر الله سبحانه، وقد تقدمت نبذة من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) الآية البقرة: 124.
وقد تبين بما قدمناه في معنى الآية أمور:
أحدها: أن المراد بالهداية إلى الحق ما هو بمعنى الايصال إلى المطلوب دون ما هو بمعنى إراءة الطريق المنتهى إلى الحق فإن من الضروري أن وصف طريق الحق يتأتى من كل أحد سواء اهتدى إلى الحق بنفسه أو بغيره أو لم يهتد.
وثانيها: أن المراد بقوله: (من لا يهدى إلا أن يهدى) من لا يهتدى بنفسه، وهذا أعم من أن يكون ممن يهتدى بغيره أو يكون ممن لا يهتدى أصلا، لا بنفسه ولا بغيره كالأوثان والأصنام التي هي جماد لا يقبل هداية من غيره، وذلك أن قوله:
(إلا أن يهدى) استثناء من قوله: (من لا يهدى) الأعم من أن لا يهتدى أصلا أو يهتدى بغيره، والمأخوذ في قوله: (أن يهدى) فعل دخلت عليه أن المصدرية