أشير به إلى حجتين من الحجج المستعملة في القرآن لاثبات المعاد: أما قوله: (إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده) فلان الجاري من سنة الله سبحانه أنه يفيض الوجود على ما يخلقه من شئ ويمده من رحمته بما تتم له به الخلقة فيوجد ويعيش ويتنعم برحمة منه تعالى ما دام موجودا حتى ينتهى إلى اجل معدود.
وليس انتهاؤه إلى أجله المعدود المضروب له فناء منه وبطلانا للرحمة الإلهية التي كان بها وجوده وبقاؤه وسائر ما يلحق بذلك من حياة وقدرة وعلم ونحو ذلك بل بقبضه تعالى ما بسطه عليه من الرحمة فإن ما أفاضه الله عليه من عنده هو وجهه تعالى ولن يهلك وجهه.
فنفاد وجود الأشياء وانتهائها إلى أجلها ليس فناء منها وبطلانا لها على ما نتوهمه بل رجوعا وعودا منها إلى عنده وقد كانت نزلت من عنده، وما عند الله باق فلم يكن إلا بسطا ثم قبضا فالله سبحانه يبدؤ الأشياء ببسط الرحمة، ويعيدها إليه بقبضها وهو المعاد الموعود.
وأما قوله: (ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) الخ فإن الحجة فيه أن العدل والقسط الإلهي - وهو من صفات فعله - يأبى أن يستوى عنده من خضع له بالايمان به وعمل صالحا ومن استكبر عليه وكفر به وبآياته، والطائفتان لا يحس بينهما بفرق في الدنيا فإنما السيطرة فيها للأسباب الكونية بحسب ما تنفع وتضر بإذن الله.
فلا يبقى إلا أن يفرق الله بينهما بعدله بعد إرجاعهما إليه فيجزى المؤمنين المحسنين جزاء حسنا والكفار المسيئين جزاء سيئا من جهة ما يتلذذون به أو يتألمون.
فالحجة معتمدة على تمايز الفريقين بالايمان والعمل الصالح وبالكفر وعلى قوله:
(بالقسط) هذا، وقوله: (ليجزى) متعلق بقوله: (إليه مرجعكم جميعا) على ظاهر التقرير.
ويمكن أن يكون قوله: (ليجزى) الخ متعلقا بقوله: (ثم يعيده) ويكون الكلام مسوقا للتعليل وإشارة إلى حجة واحدة وهى الحجة الثانية المذكورة، والأقرب من جهة اللفظ هو الأخير.