وهذا هو الذي دعا أنبياء الحق إلى صراحة القول وصدق اللهجة وإن كان ذلك في بعض الموارد مما لا يرتضيه سنة المداهنة والتساهل والأدب الكاذب الدائر في المجتمعات غير الدينية.
ومن أدبهم مع الناس في معاشرتهم وسيرتهم فيهم احترام الضعفاء والأقوياء على حد سواء والاكثار والمبالغة في حق أهل العلم والتقوى منهم فإنهم لما بنوا على أساس العبودية وتربية النفس الانسانية تفرع عليه تسوية الحكم في الغنى والفقير والصغير والكبير والرجل والمرأة والمولى والعبد والحاكم والمحكوم والأمير والمأمور والسلطان والرعية، وعند ذلك لغى تمايز الصفات، واختصاص الأقوياء بمزايا اجتماعية، وبطل تقسم الوجدان والفقدان والحرمان والتنعم والسعادة والشقاء بين صفتي الغنى والفقر والقوة والضعف، وان للقوى والغنى من كل مكانة أعلاها، ومن كل عيشة أنعمها، ومن كل مجاهدة أروحها وأسهلها، ومن كل وظيفة أخفها بل كان الناس في ذلك شرعا سواء، قال: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " (الحجرات: 13) وتبدل استكبار الأقوياء بقوتهم ومباهاة الأغنياء بغنيتهم تواضعا للحق ومسارعة إلى المغفرة والرحمة، وتسابقا في الخيرات وجهادا في سبيل الله وابتغاء لمرضاته.
واحترم حينئذ للفقراء كما للأغنياء وتؤدب مع الضعفاء كما مع الأغنياء بل اختص هؤلاء بمزيد شفقة ورأفة ورحمة، قال تعالى يؤدب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا " (الكهف: 28) وقال تعالى: " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين " (الانعام:
52)، وقال: " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين، وقل إني أنا النذير المبين " (الحجر: 89).
ويشتمل على هذا الأدب الجميل ما حكاه الله من محاورة بين نوح عليه السلام وقومه إذ قال: " فقال الملا الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين، قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم