آخر: " إن الدين عند الله الاسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جائهم العلم بغيا بينهم " آل عمران - 19، وقد مر بيانه في قوله تعالى: " كان الناس أمة واحدة " البقرة - 213. ولو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعا تكوينيا، لكنهم اختلفوا فيما بينهم بغيا وقد اجرى الله في سنة الايجاد سببية ومسببية بين الأشياء والاختلاف من علل التنازع، ولو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعا تشريعيا أو لم يأمر به؟ ولكنه تعالى أمر به وأراد بأمره البلاء والامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن الكاذبين.
وبالجملة القتال بين أمم الأنبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي، والرسالة وبيناتها إنما تدحض الباطل وتزيل الشبه. وأما البغي واللجاج وما يشابههما من الرذائل فلا سبيل إلى تصفية الأرض منها، وإصلاح النوع فيها إلا القتال، فإن التجارب يعطي ان الحجة لم تنجح وحدها قط إلا إذا شفع بالسيف، ولذلك كان كلما اقتضت المصلحة أمر الله سبحانه بالقيام للحق والجهاد في سبيل الله كما في عهد إبراهيم وبني إسرائيل، وبعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد مر بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير آيات القتال سابقا.
قوله تعالى: منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات، في الجملتين التفات من الحضور إلى الغيبة، والوجه فيه - والله أعلم - ان الصفات الفاضلة على قسمين: منها ما هو بحسب نفس مدلول الاسم يدل على الفضيلة كالآيات البينات، وكالتأييد بروح القدس كما ذكر لعيسى عليه السلام فإن هذه الخصال بنفسها غالية سامية، ومنها: ما ليس كذلك، وإنما يدل على الفضيلة ويستلزم المنقبة بواسطة الإضافة كالتكليم، فإنه لا يعد في نفسه منقبة وفضيلة إلا أن يضاف إلى شئ فيكتسب منه البهاء والفضل كإضافته إلى الله عز اسمه، وكذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه بنفسه إلا ان يقال: رفع الله الدرجات مثلا فينسب الرفع إلى الله، إذا عرفت هذا علمت: أن هذا هو الوجه في الالتفات من الحضور إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث حيث قال تعالى: فمنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات، فحول وجه الكلام من التكلم إلى الغيبة في الجملتين الأوليين حتى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الأول وهو التكلم فقال تعالى: وآتينا عيسى بن مريم.