فقال الآخرون لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، وقد أذل الله المشركين وهزمهم، فأدخلوا العسكر، فانتهبوا مع إخوانكم. فلما اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن جبير، وكان يومئذ معلما بثياب بيض، فحمد الله وأمرهم بطاعة رسوله، وألا يخالف أمره، فعصوه، وانطلقوا فلم يبق معه إلا نفير ما يبلغون العشرة، منهم الحارث بن أنس بن رافع، يقول يا قوم، اذكروا عهد نبيكم إليكم، وأطيعوا أميركم. فأبوا، وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون، وخلوا الجبل (1)، وانتقضت صفوف المشركين، واستدارت رحالهم، ودارت (2) الريح - وكانت إلى أن انتقض صفهم صبا، فصارت دبورا - فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله، فكر بالخيل، وتبعه عكرمة بالخيل، فانطلقا إلى موضع الرماة، فحملوا عليهم، فرماهم القوم حتى أصيبوا، ورمى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر، ثم كسر جفن سيفه، فقاتل حتى قتل، وأفلت جعيل بن سراقة وأبو بردة بن نيار بعد أن شاهدا قتل عبد الله بن جبير، وكان آخر من انصرف من الخيل، فلحقا بالمسلمين.
قال الواقدي: فروى رافع بن خديج، قال: لما قتل خالد الرماة أقبل بالخيل وعكرمة بن أبي جهل يتلوه، فخالطنا وقد انتقضت صفوفنا، ونادى إبليس - وتصور في صورة جعيل بن سراقة: أن محمدا قد قتل ثلاث صرخات، فابتلي يومئذ جعيل بن سراقة ببلية عظيمة حين تصور إبليس في صورته، وإن جعيلا ليقاتل مع المسلمين أشد القتال، وإنه إلى جنب أبى بردة بن نيار وخوات بن جبير. قال رافع بن خديج: فوالله ما رأينا دولة كانت أسرع من دولة المشركين علينا، وأقبل المسلمون على جعيل بن سراقة يريدون قتله، يقولون هذا الذي صاح أن محمدا قد قتل، فشهد له خوات بن جبير وأبو بردة، إنه كان إلى جنبهما حين صاح الصائح، وإن الصائح غيره.