والعرادات القسي الناوكية، وسائر الآلات على سورها، فرأى ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان، ورأي من كثرة عدد مقاتلتهم واجتماعهم ما استغلظ أمره.
ولما عاين الزنج أبا أحمد وأصحابه، ارتفعت أصواتهم بما أرتجت له الأرض، فأمر أبو أحمد عند ذلك ابنه أبا العباس بالتقدم إلى سور المدينة، ورشق من عليه بالسهام، ففعل ودنا حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الناجم، وانحاز الزنج بأسرهم إلى المواضع الذي دنت منه الشذا. وتحاشدوا، وتتابعت سهامهم وحجارة منجنيقاتهم وعراداتهم ومقاليعهم، ورمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم، حتى ما يقع طرف ناظر على موضع إلا رأى فيه سهما أو حجرا.
وثبت أبو العباس فرأى الناجم وأشياعه من جهدهم واجتهادهم وصبرهم ما لا عهد لهم بمثله من أحد ممن حاربهم، وحينئذ أمر أبو أحمد ابنه أبا العباس بالرجوع بمن معه إلى مواقفهم ليروحوا عن أنفسهم، ويداووا جروحهم ففعلوا ذلك، واستأمن في هذه الحال إلى أبى أحمد مقاتلان من مقاتلة السميريات من الزنج، فأتياه بسميرياتهما وما فيها من الملاحين والآلات، فأمر لها بخلع ديباج ومناطق محلاة بالذهب، ووصلهما بمال، وأمر للملاحين بخلع من الحرير الأحمر والأخضر الذي حسن موقعه منهم، وعمهم جميعا بصلاته، وأمر بإدنائهم من الموضع الذي يراهم فيه نظراؤهم، فكان ذلك من أنجع (1) المكايد التي كيد بها صاحب الزنج، فلما رأى الباقون ما صار إليه أصحابهم من العفو عنهم، والاحسان إليهم رغبوا في الأمان، وتنافسوا فيه، فابتدر منهم جمع كثير مسرعين نحوه راغبين فيما شرع لهم منه، فأمر أبو أحمد لهم بمثل ما أمر به لأصحابهم فلما رأى الناجم ركون أصحاب السميريات إلى الأمان، ورغبتهم فيه، أمر برد من كان منهم في دجلة إلى نهر أبى