وقع فيهما هان ما كان يتخوفه، ووجد الامر دون ذلك، وكذلك القتل والموت، فإن ما يستعظمه الناس منهما دون أمرهما في الحقيقة، وقد قال أبو الطيب - وهو حكيم الشعراء:
كل ما لم يكن من الصعب في * الأنفس سهل فيها إذا هو كانا (1) ويقال في المثل: لج الخوف تأمن. وأما أحوال الآخرة فلا ريب أن الامر فيها بالضد من ذلك، لان الذي يتصوره الناس من الجنة أنها أشجار وأنهار ومأكول ومشروب، وجماع، وأمرها في الحقيقة أعظم من هذا وأشرف، لان ملاذها الروحانية المقارنة لهذه الملاذ المضادة لها أعظم من هذه الملاذ بطبقات عظيمة، وكذلك أكثر الناس يتوهمون أن عذاب النار يكون أياما وينقضي، كما يذهب إليه المرجئة، أو أنه لا عذاب بالنار لمسلم أصلا، كما هو قول الخلص من المرجئة، وأن أهل النار يألفون عذابها فلا يستضرون به إذا تطاول الأمد عليهم، وأمر العذاب أصعب مما يظنون، خصوصا على مذهبنا في الوعيد، ولو لم يكن إلا آلام النفوس باستشعارها سخط الله تعالى عليها، فإن ذلك أعظم من ملاقاة جرم النار لبدن الحي.
وفي هذا الموضع أبحاث شريفة دقيقة، ليس هذا الكتاب موضوعا لها.
ثم أمرهم بأن يكتفوا من عيان الآخرة وغيبها بالسماع والخبر، لأنه لا سبيل ونحن في هذه الدار إلى أكثر من ذلك.
وإلى قوله: " ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة، خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا " نظر أبو الطيب، فقال، إلا أنه أخرجه في مخرج آخر:
بلاد ما اشتهيت رأيت فيها * فليس يفوتها إلا كرام (2)