صرت بين الورى غريبا كما أنك تحت الثرى وحيد غريب فإن قلت: ما وجه تقسيمه عليه السلام الأمور التي عددها إلى الفناء والعناء، والغير والعبر؟
قلت: لقد أصاب الثغرة وطبق المفصل، ألا تراه ذكر في الفناء رمى الدهر الانسان عن قوس الردى، وفي العناء جمع ما لا يأكل، وبناء ما لا يسكن، وفي الغير الفقر بعد الغنى والغنى بعد الفقر، وفي العبر اقتطاع الاجل الامل، فقد ناط بكل لفظة ما يناسبها.
وقد نظر بعض الشعراء إلى قوله عليه السلام: " ليس شئ بشر من الشر إلا عقابه، وليس شئ بخير من الخير إلا ثوابه " فقال:
خير البضائع للانسان مكرمة * تنمى وتزكو إذا بارت بضائعه فالخير خير، وخير منه فاعله * والشر شر، وشر منه صانعه إلا أن أمير المؤمنين عليه السلام استثنى العقاب والثواب، والشاعر جعل مكانهما فاعل الخير والشر.
ثم ذكر أن كل شئ من أمور الدنيا المرغبة والمرهبة، سماعه أعظم من عيانه، والآخرة بالعكس، وهذا حق، أما القضية الأولى فظاهرة، وقد قال القائل:
أهتز عند تمنى وصلها طربا * ورب أمنية أحلى من الظفر ولهذا يحرص الواحد منا على الامر، فإذا بلغه برد وفتر، ولم يجده كما كان يظن في اللذة. ويوصف لنا البلد البعيد عنا، بالخصب والامن والعدل، وسماح أهله، وحسن نسائه، وظرف رجاله، فإذا سافرنا إليه لم نجده كما وصف، بل ربما وجدنا القليل من ذلك، ويوصف لنا الانسان الفاضل بالعلم بفنون من الآداب والحكم، ويبالغ الواصفون في ذلك. فإذا اختبرناه وجدناه دون ما وصف، وكذلك قد يخاف الانسان حبسا أو ضربا أو نحوهما فإذا