ثم أمر بالعمل والعبادة، ونهى عن الحرص على طلب الرزق، فقال: إنكم أمرتم بالأول وضمن لكم الثاني، فلا تجعلوا المضمون حصوله لكم هو المخصوص بالحرص والاجتهاد، بل ينبغي أن يكون الحرص والاجتهاد فيما أمرتم بعمله وهو العبادة. وقد يتوهم قوم أنه ارتفع " طلبه " ب " المضنون "، كقولك: المضروب أخوه، وهذا غلط لأنه لم يضمن طلبه، وإنما ضمن حصوله، ولكنه ارتفع، لأنه مبتدأ وخبره أولى، وهذا المبتدأ والخبر في موضع نصب، لأنه خبر " يكونن " أو ارتفع لأنه بدل من " المضنون "، وهذا أحسن وأولى من الوجه الأول، وهو بدل الاشتمال.
ثم ذكر أن رجعة العمر غير مرجوة، ورجعة الرزق مرجوة، أوضح ذلك بأن الانسان قد يذهب منه اليوم درهم فيستعيضه، أي يكتسب عوضه في الغد دينارا، وأما " أمس " نفسه فمستحيل أن يعود ولا مثله، لان الغد وبعد الغد محسوب من عمره، وليس عوضا من الأمس الذاهب. وهذا الكلام يقتضى أن العمر مقدور، وأن المكاسب والأرزاق إنما هي بالاجتهاد، وليست محصورة مقدرة، وهذا يناقض في الظاهر ما تقدم من قوله: " إن الرزق مضمون فلا تحرصوا عليه "، فاحتاج الكلام إلى تأويل، وهو أن العمر هو الظرف الذي يوقع المكلف فيه الأعمال الموجبة له السعادة العظمى، والمخلصة له من الشقاوة العظمى، وليس له ظرف يوقعها فيه إلا هو خاصة، فكل جزء منه إذا فات من غير عمل لما بعد الموت، فقد فات على الانسان بفواته ما لا سبيل له إلى استدراكه بعينه ولا اغترام مثله، لان المثل الذي له إنما هو زمان آخر، وليس ذلك في مقدور الانسان، والزمان المستقبل الذي يعيش فيه الانسان لم يكتسبه هو لينسب إليه، فيقال: إنه حصله عوضا مما انقضى وذهب من عمره، وإنما هو فعل غيره، ومع ذلك فهو معد ومهيأ لأفعال من العبادة توقع فيه، كما كان الجزء الماضي معدا لأفعال