وهذا كلام رجل قد استعمل التقوى والورع في جميع أموره، وبلغ من تعظيم أمر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وإجلال قدره واحترام حديثه الا يرويه إلا بألفاظه لا بمعانيه، ولا بأمر يقتضى فيه إلباسا وتعمية، ولو كان مضطرا إلى ذلك، ترجيحا للجانب الذي على جانب مصلحته في خاص نفسه. فأما إذا هو قال كلاما يبتدئ به من نفسه، فإنه قد يستعمل فيه المعاريض إذا اقتضت الحكمة والتدبير ذلك، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله باتفاق الرواة كافة إذا أراد أن يغزو وجها ورى عنه بغيره، ولما خرج عليه السلام من المدينة لفتح مكة، قال لأصحابه كلاما يقتضى أنه يقصد بنى بكر بن عبد مناة من كنانة، فلم يعلموا حقيقة حاله حتى شارف مكة، وقال حين هاجر وصحبه أبو بكر الصديق لأعرابي لقيهما: من أين أنت؟ وممن أنت؟ فلما انتسب لهما، قال له الاعرابي:
أما أنا فقد أطلعتكما طلع أمري، فممن أنت؟ فقال: من ماء، لم يزده على ذلك، فجعل الاعرابي يفكر، ويقول: من أي ماء؟ من ماء بنى فلان، من ماء بنى فلان؟ فتركه ولم يفسر له، وإنما أراد عليه السلام أنه مخلوق من نطفة.
فأما قول النظام: (لو لم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه سلم بالمعاريض لما اعتذر من ذلك)، فليس في كلامه اعتذار، ولكنه نفى أن يدخل المعاريض في روايته، وأجازها فيما يبتدئ به عن نفسه، وليس يتضمن هذا اعتذارا. وقوله: (لان أخر من السماء) يدل على أنه ما فعل ذلك ولا يفعله.
* * * ثم قال: (على من أكذب؟) يقول: كيف أكذب على الله وأنا أول المؤمنين به؟
وكيف أكذب على رسول الله وأنا أول المصدقين به! أخرجه مخرج الاستبعاد لدعواهم وزعمهم.
فإن قلت: كيف يمكن أن يكون المكلف الذي هو من أتباع الرسول كاذبا على الله إلا بواسطة إخباره عن الرسول: لأنه لا وصلة ولا واسطة بينه وبين الله تعالى إلا الرسول،