" ألا وإن الجهاد كنز وفر الله منه أقسامكم، وحرز طهر الله به أجسامكم، وعز أظهر الله به إسلامكم، فإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، فانفروا رحمكم الله جميعا وثبات (1)، وشنوا على أعدائكم الغارات، وتمسكوا بعصم الاقدام ومعاقل الثبات، وأخلصوا في جهاد عدوكم حقائق النيات، فإنه والله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، ولا قعدوا عن صون ديارهم إلا اضمحلوا. واعلموا أنه لا يصلح الجهاد بغير اجتهاد، كما لا يصلح السفر بغير زاد، فقدموا مجاهدة القلوب، قبل مشاهدة الحروب، ومغالبة الأهواء قبل محاربة الأعداء، وبادروا بإصلاح السرائر، فإنها من أنفس العدد والذخائر، واعتاضوا من حياة لا بد من فنائها، بالحياة التي لا ريب في بقائها، وكونوا ممن أطاع الله وشمر في مرضاته، وسابقوا بالجهاد إلى تملك جناته، فإن للجنة بابا حدوده تطهير الأعمال، وتشييده إنفاق الأموال، وساحته زحف الرجال، وطريقه غمغمة الابطال، ومفتاحه الثبات في معترك القتال، ومدخله من مشرعة الصوارم والنبال ".
فلينظر الناظر في هذا الكلام، فإنه وإن كان قد أخذ من صناعة البديع بنصيب، إلا أنه في حضيض الأرض وكلام أمير المؤمنين ع في أوج السماء، فإنه لا ينكر لزومه فيه لما لا يلزمه اقتدارا وقوة وكتابة، نحو قوله: " كنز " فإن بإزاء " حرز " و " عز "، وقوله: " مشاهدة " بإزاء قوله: " مجاهدة "، و " مغالبة " بإزاء " محاربة "، و " حدوده " بإزاء " تشييده "، لكن مثله بالقياس إلى كلام أمير المؤمنين ع كدار مبنية من اللبن والطين، مموهة الجدران بالنقوش والتصاوير، مزخرفة بالذهب من فوق الجص والإسفيداج (2)، بالقياس إلى دار مبنية بالصخر الأصم الصلد، المسبوك بينه عمد الرصاص والنحاس المذاب، وهي مكشوفة غير مموهة ولا مزخرفة. فإن بين هاتين الدارين بونا بعيدا، وفرقا عظيما. وانظر قوله: " ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا "، كيف تصيح من بين الخطبة صياحا، وتنادي على نفسها نداء فصيحا، وتعلم سامعها أنها ليست من المعدن