واعلم أني أضرب لك مثلا تتخذه دستورا في كلام أمير المؤمنين ع، وكلام الكتاب والخطباء بعده كابن نباتة والصابئ وغيرهما، انظر نسبة شعر أبي تمام والبحتري وأبي نؤاس ومسلم، إلى شعر امرئ القيس والنابغة وزهير والأعشى، هل إذا تأملت أشعار هؤلاء وأشعار هؤلاء، تجد نفسك حاكمة بتساوي القبيلين أو بتفضيل أبي نؤاس وأصحابه عليهم؟ ما أظن أن ذلك مما تقوله أنت ولا قاله غيرك، ولا يقوله إلا من لا يعرف علم البيان، وماهية الفصاحة، وكنه البلاغة، وفضيلة المطبوع على المصنوع، ومزية المتقدم على المتأخر، فإذا أقررت من نفسك بالفرق والفضل، وعرفت فضل الفاضل، ونقص الناقص، فاعلم أن نسبة كلام أمير المؤمنين ع إلى هؤلاء هذه النسبة، بل أظهر، لأنك تجد في شعر امرئ القيس وأصحابه من التعجرف والكلام الحوشي، واللفظ الغريب المستكره شيئا كثيرا، ولا تجد من ذلك في كلام أمير المؤمنين ع شيئا، وأكثر فساد الكلام ونزوله إنما هو باستعمال ذلك.
فإن شئت أن تزداد استبصارا، فانظر القرآن العزيز - واعلم أن الناس قد اتفقوا على أنه في أعلى طبقات الفصاحة - وتأمله تأملا شافيا، وانظر إلى ما خص به من مزية الفصاحة والبعد عن التقعير والتقعيب (1) والكلام الوحشي الغريب، وانظر كلام أمير المؤمنين ع فإنك تجده مشتقا من ألفاظه، ومقتضبا من معانيه ومذاهبه، ومحذوا به حذوه، ومسلوكا به في منهاجه، فهو وإن لم يكن نظيرا ولا ندا يصلح أن يقال إنه ليس بعده كلام أفصح منه ولا أجزل، ولا أعلى ولا أفخم ولا أنبل، إلا أن يكون كلام ابن عمه ع وهذا أمر لا يعلمه إلا من ثبتت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة، وليس كل الناس يصلح لانتقاد الجوهر، بل ولا لانتقاد الذهب، ولكل صناعة أهل، ولكل عمل رجال.
* * * ومن خطب ابن نباتة التي يحرض فيها على الجهاد: