فكفوا أهل الشام، عن رواية المغازي والسير، ليكتموها عنهم، ويخفوها عليهم، فإنهم كانوا يعتقدون أن اطلاعهم عليها فيه نشر للمساوئ الأمويين، وإزراء بهم، وتجريح لهم، وفيه إظهار لمحاسن الأنصار، وثناء عليهم، وإعلاء لهم. وكان معاوية بن أبي سفيان هو الذي سن لهم هذه السنة، وأخذ بها مروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان، وتعصب عبد الملك لها، وأبى أن يعدل عنها.
ومن خير ما يصور ذلك هذا الخبر الذي حفظه عبد الرحمن بن يزيد بن جارية الأنصاري المدني أخو عاصم بن عمر بن الخطاب لأمه، فقال (1): " قدم علينا سليمان بن عبد الملك حاجا سنة اثنتين وثمانين، وهو ولي عهد، فمر بالمدينة فدخل عليه الناس، فسلموا عليه، وركب إلى مشاهد النبي (صلى الله عليه وسلم) التي صلى فيها وحيث أصيب أصحابه بأحد، ومعه أبان بن عثمان، وعمرو بن عثمان، وأبو بكر بن عبد الله بن أبي أحمد، فأتوا به قباء ومسجد الفضيخ، ومشربة أم إبراهيم، وأحدا، وكل ذلك يسألهم ويخبرونه عما كان. ثم أمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومغازيه، فقال أبان: هي عندي قد أخذتها مصححة ممن أثق به. فأمر بنسخها، وألقي فيها إلى عشرة من الكتاب، فكتبوها في رق، فلما صارت إليه، نظر، فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين، وذكر الأنصار في بدر، فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل، فإما أن يكون