الراشدين، وإنما هم دونهم درجات، فهم لا يبلغون مبلغهم في الصلاح والفضل، ولا في التقوى والورع، وكانوا يعترفون بأنهم وعمالهم ليسوا أحسن أهل زمانهم، وإنما في رعيتهم من يتقدمهم ويتفوق عليهم، ولكنهم كانوا يزعمون أنهم أفضل ممن سيأتي بعدهم، وأنهم يجتهدون رأيهم، ويبذلون ما في وسعهم. وكانوا يسلمون أيضا بأنهم مهما يصنعوا، فإنهم عاجزون عن أن يسيروا في أهل زمانهم بسيرة أبي بكر وعمر، وأبدوا ذلك ولم يكتموه، وكان معاوية بن أبي سفيان أقوالهم في الإعلان له، وأوضحهم في الإعراب عنه، وقد ذكره في غير قليل من خطبه، قال المدائني (1):
" قدم معاوية المدينة، فخطبهم فقال: إني رمت سيرة أبي بكر وعمر فلم أطقها، فسلكت طريقة لكم فيها حظ ونفع، على بعض الأثرة. فارضوا بما أتاكم مني، وإن قل، فإن الخير إذا تتابع عنى، وإن قل أغنى، وإن السخط يكدر المعيشة، ولست بباسط يدي إلا إلى من بسط يده، فأما القول الذي يستشفي به ذو غمر (2)، فهو دبر أذني، وتحت قدمي، حتى يروم العوجاء ".
وقال معاوية لأهل المدينة (3): " إني لست أحب أن تكونوا خلقا كخلق العراق، يعيبون الشئ وهم فيه كل امرئ منهم شيعة نفسه، فاقبلونا بما فينا، فإن ما وراءنا شر لكم، وإن معروف زماننا هذا منكر زمان مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأت، ولو قد أتى، فالرتق خير من الفتق، وفي كل بلاغ، ولا مقام على الرزية ".