ذلك تكاليف شاقة لا يتمكن من فعلها إلا بالتفاته عن مشتهاه وتنغيصه عليه فلا جرم صدر صورة الابتلاء والاختبار من الله تعالى شبيهة بصورة ابتلاء الإنسان، وعليه فقس الاختبار بكل ما يختبره به، والله أعلم.
قوله (ألا إن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه (عليه السلام)) أشار إلى أنهم لم يكونوا على دين الحق ومن أهل التقوى والديانة كما لم يكونوا عليه يوم بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله) وفيه رمز على بطلان خلافة الثلاثة وخروج أكثر الصحابة عن الدين وقيل: أشار به إلى ما هم عليه في اختلاف الأوهام وتشتت الآراء وعدم الالفة والاجتماع في نصرة الله عن شبهات يلقيها الشيطان على الأذهان القابلة لوسوسته المقهورة في يده وذلك من أعظم الفتن التي يبتلي الله عباده (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) وهي أمور تشبه ما كان الناس عليه حال بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله) وفي ذلك تنبيه على أنهم ليسوا من تقوى الله في شيء.
قوله (والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة) أي لتحركن بالشدائد حركة تزعجكم من مكانكم وتحيركم في شأنكم، أشار به إلى ما يوقع بهم بنو أمية وغيرهم من الخوارج وأمراء الجور من القتل والأذى والهموم: قال في النهاية: البلابل الهموم والأحزان وبلبلة الصدر وسوسته ومنه حديث علي (عليه السلام): لتبلبلن إلى آخره.
قوله (ولتغربلن غربلة) أي يذهب خياركم ويبقى اراذلكم وفيه كناية عن التقاط آحادهم وقصدهم بالأذى والقتل كما فعل بكثير من الصحابة والتابعين وفي ذلك تشبيه لفعلهم بغربلة الدقيق ونحوه ليتميز شيء منه عن شيء ولذلك استعير له لفظها، ويحتمل أن يراد به خلط بعضهم ببعض ووقوع الاضطراب بينهم لأن غربلة الدقيق يخلط بعضه ببعض وهو الأنسب بقوله «حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم» لتصريف أئمة الجور إياكم وتقليبكم من حال إلى حال واهانتكم وتغييركم من وضع إلى وضع ومن دين إلى دين، ويحتمل أن يراد بقوله حتى يعود، إلى آخر أنه يصير عزيزكم ذليلا وذليلكم عزيزا وهو اخبار عما وقع في عهده (عليه السلام) مع القاسطين والمارقين وبعد عهده من أمراء بني أمية وغيرهم.
قوله (وليسبقن سباقون كانوا قصروا) أشار إلى بعض نتائج تغلب الزمان، قيل: أشار بالمقصرين الذين يسبقون إلى قوم قصروا عن نصرته في مبدء الأمر عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ثم نصروه في أيام خلافته وقاتلوا معه في أيام ولايته وحاربوا عدوه في محاربته، وبالسابقين الذين يقصرون إلى من كان له في الإسلام سابقة ثم يخذله وينحرف عنه ويقاتله كأهل الشام وأصحاب الجمل وأهل النهروان، وقيل: أراد أعم من ذلك، أراد بالمقصرين الذين يسبقون كل من أخذت العناية الإلهية بيده وقاد زمان التوفيق إلى الجد في طاعة الله واتباع سائر أوامره والوقوف عند نواهيه وزواجره