(عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: يا طالب العلم، إن العلم ذو فضائل كثيرة) نبههم على أن العلم إذا لم يكن معه هذه الفضائل التي بها يظهر آثاره فهو ليس بعلم حقيقة ولا يعد صاحبه عالما، وقد تصور العلم مجسما وشبهه بإنسان ذي اقتدار وانتزع منه ما يشبه بما يحتاج إليه ذلك الإنسان في اقتداره وإظهار آثاره مثل الرأس والعين والاذن واللسان إلى غير ذلك مما ذكره في الحديث.
وبالجملة أخذ العلم شخصا روحانيا له أعضاء وقوى وصفات كلها روحانية بعضها بمنزلة الأعضاء الظاهرة للإنسان كالمذكورات، وبعضها بمنزلة الصفات الباطنية مثل الحفظ والعقل والهمة والحكمة.
وأطلق هذه الألفاظ الموضوعة لما في الإنسان على ما اعتبره في العلم ترشيحا أو تخييلا أو تمثيلا أو تشبيها لأجل مناسبة يجدها الماهر في العربية كل ذلك لزيادة الايضاح والتقرير.
(فرأسه التواضع) أي التخضع والتذلل لله تعالى ولعباده، شبه التواضع بالرأس لأن الرأس رئيس أعضاء الإنسان; لأنه محل لأكثر القوى البشرية فلذلك ينتفي وجوده بانتفائه وكذلك التواضع أعظم فضائل العلم; لأن التعليم والتعلم والتمدن والتعاون والارتقاء إلى عالم القدس الذي هو المقصود من العلم لا يتحقق بدونه، فالعلم المنفك عنه التواضع والمتصف بصفة الكبر والتجبر ليس بعلم حقيقة بل الجهل أشرف.
(وعينه البراءة من الحسد) إذ كما أن العين آلة لمشاهدة المبصرات كذلك البراءة من الحسد آلة لإدراك المعقولات وحفظها، فإن الحسد يأكلها كما تأكل النار الحطب، وسر ذلك أن الحسد عبارة عن فرط حرص رجل على امتيازه في جميع الفوائد والمقتنيات من أبناء جنسه وشدة اهتمامه على إزالتها من غيره وجذبها إلى نفسه وهذه رذيلة عظيمة سببها مركب من الجهل والشره; لأن اجتماع الخيرات كلها في شخص واحد محال، وعلى تقدير الإمكان لا يتصور انتفاعه به، فجهله بتلك الحالة وإفراط الشره يحملانه على الحسد، ثم لما كان مطلوبه ممتنع الوجود فهو دائما في هم وغم وحزن وألم على فواته حتى يبلغ ذلك إلى حد يمنعه من تصور غير مطلوبه المحال، ويوجب ذلك من انمحاء ما في قلبه من الصور العلمية الحاصلة وعمية بصيرته من مشاهدة غيرها، وأيضا من جملة الخيرات وأعظمها هو العلم والحسد يمنعه من تعليم غيره; لأنه لا يقدر أن يرى حصول خير ونعمة لغيره وظاهر أن تعليم العلوم وتكرارها يورث ملكة للحاصل وجلبا لغير الحاصل، فإذا منع حسده من التعليم سلب عنه الحاصل، ومنع من مشاهدة غير الحاصل.
(واذنه الفهم) لما شبه العلم بالإنسان الكامل في احتياجه إلى الامور المذكورة لتمشية أمره