وذكر معمر عن رجل من أصحابه أنه قال: دخل قوم على سلمان وهو أمير على المدائن وهو يعمل الخوص فقيل له: تعمل هذا وأنت أمير. فقال: إني أحب أن آكل من عمل يدي وذكر أنه تعلم عمل الخوص بالمدينة من الأنصار عند بعض مواليه. (1) أجل، ومع أنه كان قادرا على التنعم بملاذ الدنيا، فهو يتركه زهدا وتعففا ومواساة للفقراء، لست أريد أن أذهب إلى الروايات المختلفة التي تنتهي كلها إلى معنى واحد، وحقيقة واحدة وهي أن زهد سلمان (رض) كان مثالا فذا. وكأنما هو قد اتخذ قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) شعارا: (والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا أو أجر في الأغلال مصفدا أحب إلى من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، غاضبا لشئ من الحطام، وكيف أظلم أحدا، لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حؤولها، والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصى الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت. ما لعلي ونعيم يفنى ولذة لا تبقى؟!) أجل يعمل الخوص بيده وهو أمير على المدائن فهذه المحاسبة الدقيقة للنفس تدل على رجل وزن الدنيا بميزان أسمى من موازين البشر واعتباراتهم فأعرض عنها إعراض رجل رأى نفسه أسمى من الحياة ومن توافه الوجود التي يتهارش عليها الناس، سما فوق دنياه وهو قادر على أن يمد يده لما يشتهي وهذا هو الزهد في أعلى مراتبه وأشرف منازله!
ومن حيث كان الدين والعلم مجتمعين لسلمان على وصف الكمال، كان لسلمان الفتيا على عهد الرسول (ص) فبين للمسلمين