البغدادي رحمه الله، كان متفننا في علومه متنوعا في معارفه، فاضلا، لكنه كان يغلب عليه الوعظ. وقد صنف كتابا في غريب الحديث خاصة نهج فيه طريق الهروي في كتابه، وسلك فيه محجته مجردا من غريب القرآن. وهذا لفظه في مقدمته بعد أن ذكر مصنفي الغريب: قال:
(فقويت الظنون أنه لم يبق شئ، وإذا قد فاتهم أشياء فرأيت أن أبذل الوسع في جمع غريب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم، وأرجو ألا يشذ عني مهم من ذلك، وأن يغني كتابي عن جميع ما صنف في ذلك). هذا قوله.
ولقد تتبعت كتابه فرأيته مختصرا من كتاب الهروي، منتزعا من أبوابه شيئا فشيئا ووضعا فوضعا، ولم يزد عليه إلا الكلمة الشاذة واللفظة الفاذة. ولقد قايست ما زاد في كتابه على ما أخذه من كتاب الهروي فلم يكن إلا جزءا يسيرا من أجزاء كثيرة.
وأما أبو موسى الأصفهاني رحمه الله فإنه لم يذكر قي كتابه مما ذكره الهروي إلا كلمة اضطر إلى ذكرها إما لخلل فيها، أو زيادة في شرحها، أو وجه آخر في معناه، ومع ذلك فإن كتابه يضاهي كتاب الهروي كما سبق، لأن وضع كتابه استدراك ما فات الهروي.
ولما وقفت على كتابه الذي جعله مكملا لكتاب الهروي ومتمما وهو في غاية من الحسن والكمال، وكان الانسان إذا أراد كلمة غريبة يحتاج إلى أن يتطلبها في أحد الكتابين فإن وجدها فيه وإلا طلبها من الكتاب الآخر، وهما كتابان كبيران ذوا مجلدات عدة، ولا خفاء بما في ذلك من الكلفة، فرأيت أن أجمع ما فيهما من غريب الحديث مجردا من غريب القرآن، وأضيف كل كلمة إلى أختها في بابها تسهيلا لكلفة الطلب، وتمادت بي الأيام في ذلك أقدم رجلا وأؤخر أخرى، إلى أن قويت العزيمة وخلصت النية، وتحققت في إظهار ما في القوة إلى الفعل، ويسر الله الأمر وسهله، وسناه ووفق إليه، فحينئذ أمعنت النظر وأنعمت الفكر في اعتبار الكتابين والجمع بين ألفاظهما، وإضافة كل منهما إلى نظيره في بابه، فوجدتهما - على كثرة ما أدع فيهما من غريب الحديث والأثر - قد فاتهما الكثير الوافر، فإني في بادئ الأمر وأول النظر مر بذكري كلمات غريبة من غرائب أحاديث الكتب الصحاح كالبخاري ومسلم - وكفاك بهما شهرة في كتب الحديث - لم يرد شئ منهما في هذين الكتابين، فحيث عرفت ذلك تنبهت لاعتبار غير هذين الكتابين من كتب الحديث المدونة المصنفة في أول الزمان وأوسطه وآخره. فتتبعتها واستقريت ما حضرني منها،