واستمر عصره صلى الله عليه وسلم إلى حين وفاته على هذا السنن المستقيم. وجاء العصر الثاني - وهو عصر الصحابة - جاريا على هذا النمط سالكا هذا المنهج. فكان اللسان العربي عندهم صحيحا محروسا لا يتداخله الخلل، ولا يتطرق إليه الزلل، إلى أن فتحت الأمصار، وخالط العرب غير جنسهم من الروم والفرس والحبش والنبط، وغيرهم من أنواع الأمم الذين فتح الله على المسلمين بلادهم، وأفاء عليهم أموالهم ورقابهم، فاختلطت الفرق وامتزجت الألسن، وتداخلت اللغات ونشأ بينهم الأولاد، فتعلموا من اللسان العربي ما لا بد لهم في الخطاب منه، وحفظوا من اللغة مالا غنى لهم في المحاورة عنه، وتركوا ما عداه لعدم الحاجة إليه، وأهملوه لقلة الرغبة في الباعث عليه، فصار بعد كونه من أهم المعارف مطرحا مهجورا، وبعد فرضيته اللازمة كأن لم يكن شيئا مذكورا. وتمادت الأيام والحالة هذه على ما فيها من التماسك والثبات، واستمرت على سنن من الاستقامة والصلاح، إلى أن انقرض عصر الصحابة والشأن قريب، والقائم بواجب هذا الأمر لقلته غريب. وجاء التابعون لهم بإحسان فسلكوا سبيلهم لكنهم قلوا في الإتقان عددا، واقتفوا هديهم وإن كانوا مدوا في البيان يدا، فما انقضى زمانهم على إحسانهم إلا واللسان العربي قد استحال أعجميا أو كاد، فلا ترى المستقل به والمحافظ عليه إلا الآحاد.
هذا والعصر ذلك العصر القديم، والعهد ذلك العهد الكريم، فجهل الناس من هذا المهم ما كان يلزمهم معرفته، وأخروا منه ما كان يجب تقدمته، واتخذوه وراءهم ظهريا فصار نسيا منسيا، والمشتغل به عندهم بعيدا قصيا، فلما أعضل الداء وعز الدواء، ألهم اللهعز وجل جماعة من أولي المعارف والنهى، وذوي البصائر والحجى، أن صرفوا إلى هذا الشأن طرفا من عنايتهم، وجانبا من رعايتهم، فشرعوا فيه للناس مواردا، ومهدوا فيه لهم معاهدا، حراسة لهذا العلم الشريف من الضياع، وحفظا لهذا المهم العزيز من الاختلال.
فقيل إن أول من جمع في هذا الفن شيئا وألف أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي، فجمع من ألفاظ غريب الحديث والأثر كتابا صغيرا ذا أوراق معدودات، ولم تكن قلته لجهله بغيره من غريب الحديث، وإنما كان ذلك لأمرين: أحدهما أن كل مبتدئ لشئ لم يسبق إليه، ومبتدع لأمر لم يتقدم فيه عليه، فإنه يكون قليلا ثم يكثر، وصغيرا ثم يكبر. والثاني أن الناس يومئذ كان فيهم بقية وعندهم معرفة، فلم يكن الجهل قد عم، ولا الخطب قد طم.
ثم جمع أبو الحسن النضر بن شميل المازني بعده كتابا في غريب الحديث أكبر من كتاب أبي