ثم إنه جمع فيه من غريب الحديث ما في كتاب أبي عبيد وابن قتيبة وغيرهما ممن تقدمه عصره من مصنفي الغريب، مع ما أضاف إليه مما تتبعه من كلمات لم تكن في واحد من الكتب المصنفة قبله، فجاء كتابه جامعا في الحسن بين الإحاطة والوضع. فإذا أراد الانسان كلمة غريبة وجدها في حرفها بغير تعب، إلا أنه جاء الحديث مفرقا في حروف كلماته حيث كان هو المقصود والغرض، فانتشر كتابه بهذا التسهيل والتيسير في البلاد والأمصار، وصار هو العمدة في غريب الحديث والآثار.
وما زال الناس بعده يقتفون هديه، ويتبعون أثره، ويشكرون له سعيه، ويستدركون ما فاته من غريب الحديث والآثار، ويجمعون فيه مجاميع. والأيام تنقضي، والأعمار تفنى ولا تنقضي إلا عن تصنيف في هذا الفن إلى عهد الإمام أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي رحمه الله، فصنف كتابه المشهور في غريب الحديث وسماه (الفائق) (1) ولقد صادف هذا الاسم مسمى، وكشف من غريب الحديث كل معمى، ورتبه على وضع اختاره مقفى على حروف المعجم، ولكن في العثور على طلب الحديث منه كلفة ومشقة، وإن كانت دون غيره من متقدم الكتب لأنه جمع في التقفية بين إيراد الحديث مسرودا جميعه أو أكثره أو أقله، ثم شرح ما فيه من غريب فيجئ شرح كل كلمة غريبة يشتمل عليها ذلك الحديث في حرف واحد من حروف المعجم، فترد الكلمة في غير حرفها، وإذا تطلبها الانسان تعب حتى يجدها، فكان كتاب الهروي أقرب متناولا وأسهل مأخذا، وإن كانت كلماته متفرقة في حروفها، وكان النفع به أتم والفائدة منه أعم.
فلما كان زمن الحافظ أبي موسى محمد بن أبي بكر بن أبي عيسى المديني الأصفهاني، وكان إماما في عصره حافظا متقنا تشد إليه الرحال، وتناط به من الطلبة الآمال، قد صنف كتابا جمع فيه ما فات الهروي من غريب القرآن والحديث يناسبه قدرا وفائدة، ويماثله حجما وعائدة، وسلك في وضعه مسلكه، وذهب فيه مذهبه، ورتبه كما رتبه، ثم قال: (واعلم أنه سيبقى بعد كتابي أشياء لم تقع لي ولا وقفت عليها، لأن كلام العرب لا ينحصر). ولقد صدق رحمه الله فإن الذي فاته من الغريب كثير، ومات سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
وكان في زماننا أيضا معاصر أبي موسى الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي