أكاد أقول، إن الرأي العام القومي كله، قد اهتدى في كل أمة إلى هذه الحقيقة.
أما أن الرأي العام القومي للأمم قد اهتدى إليها، فليس أدل عليه من أن نستعرض تاريخ جاهلية العرب قبيل الإسلام، أو تاريخ جاهلية كل أمة، فيقابلنا ركام لا يكاد ينقطع مدده من مفاخر كل أمة من هذه الأمم وأمجادها. وقد تختلف القضايا التي تتمجد بها الأمم ولكنها تشترك كلها في كونها موضوعا لعمل عظيم، عمل فائق الأثر، بالغ الفعالية، يحمل إلى الأبناء والأحفاد صورا جميلة رائعة لعظماء الأمة ورجالها الكبار.
وقد تكون هذه الأمجاد ممتزجة بالأساطير. بل قد تكون كلها مجموعة من الأساطير فليس المقصود من روايتها الوصول إلى الحقيقة الموضوعية كما يفهمها علماء المنهج الديكارتي اليوم، بل الغاية الوحيدة من تكرارها، مرتلة أو ملحنة أو منقولة على شكل قصص خلابة، هي تزويد المواطن الجديد بالمثل العليا التي تجسمت في أخلاق رجال ونساء عاشوا في الماضي، يرغب الضمير القومي مخلصا أن تتجسم في أخلاق الرجال والنساء في مستقبل الأيام. فإذا كانت هذه المثل قد تجسمت حقا في أخلاق الرجال والنساء من الأوائل فهي موضوع التاريخ. وإذا كانت موضوعا لرغبة كامنة في الضمير القومي تعمل على تجسيمها حية في أخلاق الرجال والنساء في مستقبل الأيام، فهي الأساطير.
إن الأسطورة هي التاريخ الغريزي للأمة البدائية التي لم تصنع تاريخها الموضوعي بعد، التاريخ الذي تبنيه بدماء أبنائها وعرق جباههم. تصنعه ببطء وبطولة وصبر فائق. تلمع، وتنظف، وتعد بعناية زائدة، كل جدار من جدرانه، بل كل مدماك، ولا أبالغ إن قلت، كل حجر. وكلما بعد الزمن برز البناء التاريخي من خلال لوحة الغسق