لم يقع الاقتصار في الآية على حكاية (وتله للجبين) (الصافات: 103) ولكان ذكر الذبح أوقع في الابتلاء ولسقطت فائدة ا لفداء. فبطل ما قالوه، وتعين القول بجواز النسخ قبل التمكن بدليل وقوعه في قصة الذبيح، فلا يمكنهم ترديد مثلها في قصة الاسراء إذ لا خفاء بأنه صلى الله عليه وسلم أمر في حق الأمة بخمسين صلاة ثم نسخ ما نسخ قبل أن يدخل وقت ا لصلاة فضلا عن أن يمضي زمان يسعها.
قال شيخنا السهيلي: وأما فرض الصلوات خمسين ثم حط منها عشرا بعد عشر إلى خمس صلوات وقد روي أيضا أنها حطت خمسا بعد خمس. وقد يمكن الجمع بين الروايتين لدخول الخمس في العشر، فقد تكلم في هذا ا لنقص من الفريضة أهو نسخ أم لا؟ على قولين.
فقال قوم: هو من باب نسخ العبادة قبل العمل بها، وأنكر أبو جعفر النحاس هذا القول من وجهين:
أحدهما: البناء على أصله ومذهبه في أن العبادة لا يجوز نسخها قبل العمل لها لان ذلك عنده من البداء، والبداء محال على الله سبحانه.
الثاني: أن العبادة إن جاز نسخها قبل العمل بها عند من يرى ذلك فليس يجوز عند أحد نسخها قبل هبوطها إلى الأرض وهبوطها إلى المخاطبين... إنما هي شفاعة شفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لامته ومراجعة راجعها ربه ليخفف عن أمته ولا يسمى مثل هذا نسخا).
أما مذهب أبي جعفر النحاس في أن العبادة لا تنسخ قبل العمل بها وأن ذلك بداء فليس بصحيح لان حقيقة البداء أن يبدو للامر رأي يتبين له الصواب فيه بعد أن لم يكن تبينه، وهذا محال في حق من يعلم الأشياء بعلم قديم. وليس النسخ من هذا في شئ، إنما النسخ تبديل حكم بحكم، والكل سابق في علمه ومقتضى حكمته، كنسخه المرض بالصحة والصحة بالمرض ونحو ذلك، وأيضا بأن العبد المأمور يجب عليه عند توجه الامر إليه ثلاث عبادات:
الفعل الذي أمر به، والعزم على الامتثال عند سماع الامر، واعتقاد ا لوجوب إن كان واجبا، فإن نسخ الحكم قبل الفعل فقد حصلت فائدتان: العزم، واعتقاد الوجوب، وعلم الله تعالى ذلك منه علم مشاهدة. فصح امتحانه له واختباره إياه، وأوقع الجزاء على حسب ما علم من نيته والذي لا يجوز إنما هو نسخ الامر قبل نزوله وقبل علم المخاطب به. والذي ذكر النحاس من نسخ العبادة بعد العمل بها ليس هو حقيقة النسخ لان العبادة المأمور بها قد مضت وإنما جاء الخطاب بالنهي عن مثلها لا عنها. وقولنا في الخمس والأربعين صلاة الموضوعة عن محمد صلى الله عليه وسلم وأمته. أحد وجهين إما أن يكون نسخ ما وجب على النبي صلى الله عليه وسلم من أدائها، ورفع عنه استمرار العزم واعتقاد الوجوب. وهذا قد قدمنا أنه نسخ على الحقيقة، ونسخ عنه ما وجب