ثم قال الخطابي مشيرا إلى رفع الحديث من أصله (إن القصة بطولها إنما هي حكاية يحكيها أنس من تلقاء نفسه لم يعزها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقلها عنه ولا أضافها إلى قوله، فحاصل الامر في النقل أنها من جهة الراوي أنس، وأما شريك فإنه كثير التفرد بمناكير الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرواة). قال الحافظ: (وما نفاه من أن أنسا لم يسند هذه القصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تأثير له، فأدنى أمره فيها أن تكون مرسل صحابي، فإما أن يكون تلقاها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي تلقاها عنه. ومثل ما اشتملت عليه لا يقال بالرأي فيكون لها حكم الرفع. ولو كان لما ذكره تأثير لم يحمل حديث أحد روى مثل ذلك على الرفع أصلا وهو خلاف عمل المحدثين قاطبة فالتعليل بذلك مردود.
ثم قال الخطابي: (إن الذي وقع في هذه الرواية من نسبة التدلي للجبار عز وجل مخالفة لعامة السلف والعلماء وأهل التفسير ومن تقدم منهم ومن تأخر. والذي قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها: دنا جبريل من محمد فتدلى أي تقرب منه، وقيل هو على التقديم والتأخير أي تدلى فدنا لان التدلي سبب الدنو. الثاني: تدلى جبريل بعد الانصباب والاندفاع حتى رآه متدليا كما رآه مرتفعا، وذلك من آيات الله حيث أقدره على أن يتدلى في الهواء من غير اعتماد على شئ وتمسك بشئ. الثالث: دنا جبريل فتدلى محمد ساجدا لربه شكرا على ما أعطاه من الزلفى. وقد روي هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه من غير طريق شريك فلم يذكر هذه لألفاظ الشنيعة، وذلك مما يقوي الظن أنها صادرة من شريك).
قال الحافظ: (قد أخرج البيهقي من طريق الأموي في مغازيه عن محمد بن عمر بن أبي سلمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى) (النجم:
13)، قال: (دنا منه ربه)، وهذا سند حسن وهو شاهد قوي لرواية شريك. ثم قال الخطابي:
(وفي هذا الحديث لفظة أخرى تفرد بها شريك أيضا لم يذكرها غيره، وهي قوله: (فعلا به) يعني جبريل إلى الجبار تعالى، فقال وهو مكانه: (رب خفف عنا). قال الخطابي:
(والمكان لا ينسب إلى الله تعالى، إنما هو مكان النبي صلى الله عليه وسلم في مقامه الأول الذي قام فيه قبل هبوطه). قال الحافظ: (وهذا الأخير متعين وليس في السياق تصريح بإضافة المكان إلى الله تعالى، وأما ما جزم به من مخالفته للسلف والخلف فقد ذكرنا من وافقه). وقد نقل القرطبي عن ابن عباس أنه قال: (دنا الله)، قال القرطبي: (والمعنى دنا أمره وحكمه، وأصل التدلي النزول إلى الشئ حتى يقرب منه). قال: (وقيل التدلي تدلي الرفرف لمحمد حتى جلس عليه، ثم دنا محمد من ربه). وقد أزال العلماء إشكاله فقال القاضي: (إضافة الدنو والقرب هنا من الله أو إلى الله تعالى ليس بدنو مكان وقرب مدى ينتهي إليه وإنما دنو