ولم يزل أمير المؤمنين منذ انقضت إليه الخلافة وحمل مشاقها واختبر مرارة طعمها ومذاقها مسهر العينين مضنيا لبدنه مطيلا لفكره فيما فيه عز الدين وقمع المشركين وصلاح الأمة وجمع الكلمة ونشر العدل وإقامة الكتاب والسنة ومنعه ذلك من الحفظ والدعة ومهنأ العيش محبة أن يلقى الله سبحانه وتعالى مناصحا له في دينه وعباده ومختارا لولاية عهده ورعاية الأمة من بعده، أفضل من يقدر عليه في دينه وورعه وعلمه، وأرجاهم للقيام بأمر الله تعالى وحقه، مناجيا لله تعالى بالاستخارة في ذلك ومسألته الهامة ما فيه رضاه وطاعته في آناء ليله ونهاره، معملا فكره ونظره فيما فيه طلبه والتماسه في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس وعلي بن أبي طالب، مقتصرا ممن علم حاله ومذهبه منهم على علمه وبالغا في المسألة ممن خفي عليه أمره جهده وطاقته، رضاه وطاعته، حتى استقصى أمورهم معرفة، وابتلى (1) أخبارهم مشاهدة، واستبرأ أحوالهم معاينة، وكشف ما عندهم مسائلة.
وكانت خيرته بعد استخارة الله تعالى واجتهاده نفسه في قضاء حقه في عباده وبلاده في الفئتين جميعا علي بن موسى الرضا ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) لما رأى من فضله البارع وعلمه الذايع وورعه الظاهر الشايع وزهده الخالص النافع، وتخليته من الدنيا وتفرده عن الناس وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه مطبقة والألسن عليه متفقة والكلمة فيه جامعه والأخبار واسعة، ولما لم نزل نعرفه به من الفضل يافعا وناشئا وحدثا وكهلا فلذلك عقد له بالعهد والخلافة من بعده واثقا بخيرة الله تعالى في ذلك، إذ علم الله تعالى أنه فعله إيثارا له وللدين ونظرا للإسلام وطلبا للسلامة وثبات الحجة والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين.