فصل في ذكر من ولي السوق في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرف هذه الولاية اليوم بالحسبة ومتوليها يقال له المحتسب (1) إعلم أن الحسبة أمر بالمعروف، إذا ظهر تركه، ونهى عن المنكر، إذا ظهر فعله، والأصل أن الاحتساب طلب الأجر، والاسم الحسبة (2).
(١) قال الأمم العلامة أبو الفضل جمال الدين بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري: الحسبة في الأمر: أي حسن التدبير والنظر فيه، وليس هو من احتساب الأجر وفلان محتسب البلد، ولا تقل: محسبه (لسان العرب): ١ / ٣١٧.
(٢) قال العلامة مصطفى بن عبد الله القسطنطي الرومي الحنفي، الشهير بالملا كاتب الجلبي، والمعروف بحاجي خليفة، في (كشف الظنون): ١ / ٧٧ - ٧٨: علم الاحتساب: وهو علم باحث عن علم الاحتساب وهو علم باحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم اللاتي لا يتم التمدن بدونها من حيث إجرائها على قانون العدل بحيث يتم التراضي بين المتعاملين وعن سياسة العباد بنهي عن المنكروأمر بالمعروف بحيث لا يؤدي إلى مشاجرات وتفاخر بين العباد بحسب ما رآه الخليفة من الزجر والمنع ومبادئه بعضها فقهي، وبعضها أمور استحسانية ناشئة من رأى الخليفة، والغرض منه تحصيل الملكة في تلك الأمور، وفائدته إجراء أمور المدن في المجاري على الوجه الأتم، وهذا العلم من أدق العلوم ولا يدركه إلا من له فهم ثاقب، وحدس صائب، إذ الأشخاص والأزمان والأحوال ليست على وتيرة واحدة، فلا بد لكل واحد من الزمان والأحوال سياسة خاصة، وذلك من أصعب الأمور فلذلك لا يليق بمنصب الاحتساب إلا من له قوة قدسية مجردة عن الهوى، كعمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولذلك كان علما في هذا الشأن كذا في (موضوعات) لطف الله، وعرفه المولى أبو الخير بالنظر في أمور أهل المدينة بإجراء ما رسم في الرياسة وما تقرر في الشرع ليلا ونهارا سرا وجهارا ثم قال وعلم الرياسة [السياسة] المدينة مشتمل على بعض لوازم ها المنصب ولم نر كتابا صنف فيه خاصة وذكر في (الأحكام السلطانية) ما يكفي.
وتقول الدكتورة سعاد مصطفى أبو زيد في (الحسبة في مصر الإسلامية): والمصادر التي تتحدث عن الحسبة شرعا تذكر دون استثناء تقريبا أنها وظيفة دينية أساسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمقصود بالمعروف هنا هو كل قول أو فعل أو قصد حسنه الشارع وأمر به، والمنكر هو: هو كل قول أو فعل أو قصد قبحه الشارع ونهى عنه.
وقد حبب الله إلينا الخير، وأمرنا أن ندعو إليه، فكره إلينا المنكر ونهانا عنه، وأمرنا بمنع غيرنا منه، ونحن نجد في نصوص القرآن الكريم وفى الآيات البينات خير أدلة على ذلك، فقد صدر الأمر بها صراحة في قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) كذلك امتدحها في قوله: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) وكذلك جعلها من صفات الإيمان وقرنها بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وطاعة الله مع تقديمها في الذكر في قوله:
(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون هن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) كما قرنها بكثير من صفات المؤمنين في قوله: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) وجعل تركها والعمل بخلافها من صفات المنافقين في قوله: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف)، وذم من تركها وجعل تركها سببا للعنة في قوله: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).
ؤ [] ثم أضافت الدكتورة سعاد مصطفى أبو زيد في (المرجع نفسه)، الملحق رقم (5) وأثبتت به جدولا بأسماء أهم المحتسبين في مصر، وسنوات توليتهم، والحكام الذين تولوا في عهودهم، مؤيدا بالمراجع المتخصصة في الموضوع، وذلك من ص 252 - 272، فليراجع هناك.
وأفرد الدكتور أحمد عبد الرزاق أحمد، في كتابه (البذل والبرطلة زمن سلاطين المماليك، دراسة عن الرشوة)، فصلا خاصا أسماه: الوظائف الدينية والبذل والبرطلة، فقال:
أما الحسبة، خامس الوظائف الدينية الرفيعة التي كان لصاحبها مجلس بالحضرة السلطانية، وبدار العدل الشريف، فقد فسد أيضا أمرها نتيجة للبذل عليها طوال عصر سلاطين المماليك، وفي هذا المعنى يقول أحد كتاب القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي: " وأما أمر الحسبة فاعلموا - رحمكم الله - أن أمرها قد فسد، واستحكم فساده، وكثر الطمع في أموال الناس يسببها، وقد بقيت سيئة فلا يحل للسلطان أن يوليها أحدا، ولا حاجة للناس بها.
والحق أن البذل على هده الوظيفة يعتبر أحد الأسباب الرئيسية، التي عجلت بتدهورها وانهيارها، خاصه وأن الأمر لم يعد يقتصر على توليها بالرشوة والبراطيل، وإنما استقر الحال على توليها حسب مصطلح العصر عن طريق البذل، مما أذى إلى كثرة الطامعين فيها وإلى المزايدة عليها فيما بينهم، وبالتالي لم يعد المحتسب بحاجة إلى مجرد تناول رشوة مقنعة أو خفية، وإنما وصل به الحال إلى فرض مقررات شهرية على الباعة والتجار وأصحاب الحرف والصنائع.
ولهذا لم يكن عجيبا أن تسير الحسبة بخطى سريعة إلى الهاوية، بسبب تلاعب الجهلة بهذا المنصب الجليل، ففي سنة 809 ه = 1406 م، والتي يعدها وليها في الشهر الواحد ثلاثة أو أربعة، " بسبب ذلك أنهم فرضوا على المنصب مالا مقررا، فكان من قام في نفسه أن يليه يزن المبلغ ويخلع عليه، ثم يقوم آخر ويزن ويصرف الذي قبله.
وفي رمضان سنة 789 ه / 1387 م، استقر نجم الدين محمد الطنبدي، وكيل بيت المال في حسبة القاهرة، عوضا عن جمال الدين محمود القيصري بحكم انتقاله إلى قضاء العسكر بعد أن سعى فيها بخمسين ألف درهم، قيمتها يومئذ أكثر من ألفي دينار ذهب.
ويبدو أن بهاء الدين محمد بن البرجي كان دائب السعي على هذه الوظيفة بدليل أنه عاد إليها في شهر ربيع الأول سنة 799 ه / 1397 م، بمال قام به في ذلك، إذ أنه لم يل قط إلا بمال، فتشاءم الناس من ولايته.
وفي شعبان من نفس العام استقر زين الدين شعبان الآثاري في حسبة الفسطاط، عوضا عن نور الدين علي بن عبد الوارث البكري بمال التزم به، يبدو أنه استدان أغلبه، لأنه يفهم من المصادر المعاصرة أنه اضطر إلى الفرار من هذا المنصب في شهر ذي القعدة سنة 800 ه 1398 م، هربا من مطالبة أرباب الديون بمالهم، فخلع بها على شمس الدين محمد الشاذلي، الذي كان عاريا من العلم، غاية في الجهل، حتى تولى بالبذل والبراطيل.
وحل القرن التاسع الهجري لتدخل الحسبة أخطر مراحل تدهورها وانهيارها، بسبب كثرة البذل والسعي عليها، مما نتج عنه عدم استقرار هذه الوظيفة البالغة الأهمية بالنسبة للحياة الاقتصادية، ويكفي للتدليل على ذلك، أنه وليها على مدى هذا القرن مائة وثلاثة وعشرين محتسبا للقاهرة فقط، اتهمت المصادر المعاصرة أغلبهم بالسعي عليها بالمال رغم جهلهم وسوء سلوكهم.
ويجمع المعاصرون على أن أضخم مبلغ بذل على هذه الوظيفة خلال القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي، هو عشرة آلاف دينار، بذلها شمس الدين بن يعقوب في المحرم سنة 820 ه 1317 م، على هيئة هدايا قدمها للسلطان المؤيد، ومع ذلك فلم يمكث فيها سوى ستة أشهر، حيث عزل في جمادى الآخرة، بعد أن سعى عليه عماد الدين ابن بدر الدين ابن الرشيد.
قال محققه: ومع ذلك فهناك ثلاثة من الأتقياء العلماء العاملين قد شغلوا وظيفة المحتسب بجدارة، وعن استحقاق، وبعضهم شغلها أكثر من مرة، وهم:
- بدر الدين العيني، صاحب كتاب (عمدة القاري بشرح صحيح البخاري)، وصاحب قصر العيني المقام عليه كلية الطب - جامعة القاهرة حتى الآن.
- أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي، تقي الدين، المؤرخ، صاحب كتاب (إمتاع الأسماع).
- أحمد بن علي بن حجر صاحب كتاب (فتح الباري شرح صحيح البخاري)، والذي قال عنه السيوطي في (طبقات الحفاظ): " حافظ الدنيا على الإطلاق ".